سؤال بائس من محامٍ عتيق يائس!

بقلم: أيوب عثمان

في إحدى جلسات المحكمة، قذف وكيل المستدعى ضدها- وهو محامٍ عتيق يائس- إلى شاهد المستدعي بسؤال يائس لا قيمة له إلّا بما يرافقه من شعور الحضور بالاستخفاف بصاحبه لبؤس تفكيره وتصدّع مكانته وانهيار كيانه. ظن ذلك المحامي العتيق البائس أنه سيشدّ إليه من السماء ذلك النجم الساطع بسؤاله اليائس إلى الشاهد، قائلاً: "بما أنك أتيت إلى هذه المحكمة لأداء الشهادة"، فهل أخذت من عملك إذناً؟ حقاً إنه سؤال بائس من محام يائس! وحقاً إنه لمحامٍ بائس ويائس لفَّه بؤس سؤاله ويأس حاله، معاً في آن، لفاً.

وعلى الرغم من أن الشاهد- الذي ما عرف باب المحكمة قبل هذه التجربة قط- قد أجاب عن السؤال البائس لذلك المحامي العتيق اليائس الذي أمضى في قاعات المحاكم أربعة عقود ويزيد إجابة قانونية أخلاقية ملتزمة وشافيه، إلّا أن ذلك المحامي العتيق (عمراً لا علماً أو خبرة أو فكراً) لم يميّز بين حقوقه وواجباته كمحامٍ في قاعات المحاكم والمرافعات والتقاضي... لم يميّز بين حق قانوني له ليس في مكنة المحكمة أن تغتصبه أو أن تسلبه إياه، وبين واجب يتوجب عليه احترامه والالتزام به.

فالمحكمة مهما علا شأنها ومهما كانت درجتها، فإنه ليس في مُكْنتها أن تخالف القانون، الأمر الذي يُمِّكِن ذلك المحامي العتيق من أن يوجه إلى الشاهد ما يشاء من أسئلة طولاً وعرضاً، دونما تجاوز للقانون، وبما يحقق العدل وينتصر للعدالة. فضلاً عما سبق، فإن ذلك المحامي العتيق لم يستطع التفريق أو التمييز بين حقه في سؤال يوجهه إلى الشاهد أو حقّه في سؤال يقذف به- هكذا دون فهم ودون وعي ودون فطنة أو ذكاء أو كياسة أو شطارة- على وجه الشاهد، ما يشير إلى الاستهانة بالشاهد مع عدم الاحترام لمقام المحكمة التي ما انعقدت- البتّة- إلّا من أجل الوصول إلى العدالة التي من بين آلياتها الاستماع إلى شهادة

الشاهد التي لا يجوز في أي حال تعكير صفوها أو إرهاب صاحبها وممارسة الضغط عليه لترويعه بغية تغيير حساباته كي يصب الأمر في غير صالح العدالة أو عكس تيسير الوصول إليها.

لو كنت الشاهد الذي قذف ذلك المحامي اليائس على وجهه بذلك السؤال البائس لسألته أو لأجبته، سائلاً إياه 1) هل آخذ الإذن لتمكيني من الخروج من العمل أم لتمكيني من الحضور إلى المحكمة لأداء الشهادة؟ 2)هل تقصد بسؤالك (البائس طبعاً) إخافتي وإرهابي وترويعي من ولي الأمر في مكان عملي كي أعطي شهادة كاذبة عكس قناعاتي؟! 3) ألا ترى أنّ سؤالك (البائس هذا) لا يجوز لك أن توجهه أمام مقام هذه المحكمة التي مهمتها الآن أن تسمع شهادتي فقط دون الالتفات إلى الإذن أو عدمه؟ 4) ألم تَجُد عليك العقود الزمنية الأربعة التي أمضيتها في مهنة المحاماة والتقاضي والمرافعات ولو بقليل علم أو ضئيل خبرة تُفْهِمُكَ بأن هذا السؤال البائس إنما مجاله الوحيد هو مكان العمل إن أردت، وليس المحكمة في أي حال؟!

وبعد، فلأنني لا أطيق جهل الجاهلين وضلال الضالين واستهبال العارفين أو المضللين، فما كان مني إلّا أن قلت لذلك المحامي الذي رأيت أنه مفتون بنفسه ومعجب بما لديه، فيما أن ما لديه قليل قليل، مستنداً فقط إلى أربعة عقود قضاها من عمره وإن كان قد عاد بقليل فائدة عليه في قاعات المحاكم وردهاتها وجنباتها، قلت له: صحيح أنني لست بمحامٍ، ذلك أنني لم أدرس القانون لأنال شهادة المحاماة... وصحيح أنني لم أقضِ أربعين سنة في القضاء والمرافعة أمام المحاكم بأنواعها، ولكنني أفهم جيداً- بصفتي هاوياً للقانون لا محترفاً- أن من حقك أن توجّه إلى الشاهد ما شئت من أسئلة تسهم إجاباتها في الوصول إلى العدالة، غير أن سؤالك للشاهد عمّا إذا أخذ من العمل إذناً أو لا، فهو ليس من حقك لأنه سؤال بائس وفي غير محله، ذلك أن محل السؤال ليس المحكمة، وإنما هو مركز عمل الشاهد، حيث إن في مكنتك أن تكون (وزيزاً) تقوم (بالوزّ) أي بالوشاية على الشاهد إلى رئيس العمل كي يوقع العقوبة عليه بسبب تأدية الشهادة دون إذن، متناسياً- وأنت محامٍ عتيق عاش في المحاكم أربعين سنة- أن الاستدعاء للشهادة في نوعين: استدعاء رسمي توجهه المحكمة إلى الشاهد

على مركز عمله أو محل إقامته واستدعاء شخصي، على اعتبار أن هذين النوعين من الاستدعاء هما قانونيان.

أمّا آخر الكلام، فأنصح ذلك المحامي العتيق اليائس الذي لم يتعلّم إلا القليل خلال سني عمله الأربعين أن يتعلَّم كيف يتواضع فيتجنب مرض الإعجاب بالذات، ذلك أنّ الافتنان بالنفس قال الشاعر فيه ما ينبغي لنا أن نعلمه فنفهمه لنتعلمه ثم لغيرنا نعلِّمه:

مثل المعجب في نفسه كمثل الواقف في رأس جبل

ينظر الناس صغاراً وهو في أعين الناس صغيراً لم يزل

بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان

كاتب وأكاديمي فلسطيني

قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب

جامعة الأزهر بغزة- فلسطين