الاستقالة من متابعة الأخبار… ممكنة؟

بقلم: صبري صيدم

أذكر عندما كنا طلابا في بريطانيا بالأمس القريب، كيف كان البعض يصف نشرة الأخبار المحلية التي عادة ما تسبق الأخبار الدولية بنشرة «الكوارث»، لكثرة ما حوته من أخبار القتل والحوادث والضرب والاعتداء هنا وهناك، بينما دأبت الأخبار الدولية على تضمين نشراتها بعض الطرف أو الأخبار الخفيفة الظريفة أو حتى تقارير عن نتاجات علمية مشرفة.
اليوم وفي عالمنا العربي لم تعد هناك نشرة أخبار خفيفة الظل، حتى لو اختار رؤساء التحرير أن يدخلوا خبرا هنا أو معلومة هناك، فإن سوريا واليمن ومصر وسوريا وفلسطين وتونس وليبيا ستمنعهم من ذلك بفعل خريف العرب المتواصل. ومع ظهور تصرفات عجيبة تنسب إلى أحزاب التشدد الديني المزعوم، فإن رؤساء التحرير لم يعودوا فاعلين في اختيار وتحضير أخبارهم، بل باتت نشراتهم ومواجزهم «مفعولا بها». حتى أخبار النجوم التي تأتي بها محطات الطرب والمغنى العربي في نشراتها الفنية اليومية لم تعد ظريفة النكهة والمحتوى، فإن لم يكن هناك خلاف بين فنان وآخر، هناك طلاق ما أو مناوشة كلامية هنا أو هناك، أو حوادث غريبة بصورة لم تعد معها أيضا أخبار أهل الطرب تسر البال ولا الخاطر.
أما بيوتنا العربية فقد سادها النزاع التقليدي على شاشات التلفاز، فأحد أفراد الأسرة عادة ما يريد سماع الأخبار ليمارس جهاده المعنوي على أريكة المنزل بالتحرق على حال الأمة العربية، بينما يريد أبناؤه وبناته أو إخوته وأخواته متابعة برامج الغناء والترفيه والمسسلسلات التلفزيونية وغيرها، مما يريح الأعصاب، فينتهي الأمر بحرب من نوع آخر: حرب كلامية وخلاف عائلي واتهامات لحظية باحتكار الجهاد، اتهامات ما تلبث أن تزول كغيمة عابرة، لتتجدد من جديد في اليوم الذي يليه. لكن ومع انتشار الإنترنت بصورة أكبر استغنى معظم الأبناء عن استعمال التلفاز وباتوا يبحرون في عالمهم عبر الفضاء الإلكتروني، لكن من دون تخليهم عن الدخول إلى عالم القتل والدمار والعنف، عبر ما يشاهدونه ويتابعونه من أخبار لم تعد تخضع لا للتحرير ولا للتهذيب. أخبار بات فيها استسهال القتل والذبح والحرق أمرا دائما ومتواصلا. وبهذا تعيش الأسرة العربية حالة إخبارية مؤلمة يكاد لا يمر فيها يوم إلا وتسمع عن انفجارات واعتقالات واقتحامات وهجومات واختطافات وانتهاكات وتصفيات واحتلالات، وقائمة لا تنتهي من الحزن والألم. حال يستوجب من البعض التخلي عن سماع الأخبار وإعلان الاستقالة الرسمية من متابعة نشرات الأخبار والتفرغ لعالم آخر أقل ضراوة وضررا.
المحزن أن استقالة المرء من الأخبار لم تعد أمرا اختياريا! فشبكات الإعلام الاجتماعي باتت تلاحقك بالأخبار واشتراكك أو استعمالك لواحدة منها يكفي لنقل الأخبار إليك عنوة وفرضا وإكراها لا تستطيع صده. إذن مما تستقيل من الأجهزة اللوحية والمحمولة والهواتف الذكية والمذياع والتلفزة؟ أم نهاجر إلى المسلسلات التركية وبرامج الترفيه ومسابقات النجوم والنجوم المقبلين؟
أيا كانت الإجابة فإن الاستقالة من متابعة نشرة الأخبار يعني الاستقالة من الدنيا والدخول في عالم من العزلة والوحدة والانطواء والابتعاد عن الناس جميعا، خاصة أولئك الذين يأتونك صبيحة كل يوم ليتطوعوا في حوصلة الأخبار وبقايا النميمة وحديث الشارع.
إذن الحياة أخبار… بصورة تعززت بفعل التكنولوجيا وانتشارها وازدياد الاشتراك البشري في الإنترنت، وتصاعد امتلاك الحاســــوب والهواتف الذكية واللواقط الفضائية ومستقبلاتها الرقمية، بصورة بتنا نرى مفارقات غريبة.
كوجود عدد من الهواتف الذكية في العالم يفوق في عددها عدد أكواب الماء الصالحة لاستهلاك البشر، وأجهزة ذكية في أيدي من لا يملكون ثمن خبز يومهم ومبان متهالكة يأبى سكانها إلا أن يقتنوا أفضل الأطباق الصناعية ويثبتوها على سطحو تلك المساكن. عالم تسكنه السرعة والزراعة المخصبة والمواد الحافظة والأكلات السريعة والحروب الإلكترونية والقرصنات الرقمية  والأسلحة المتطورة بقدرتها على الفتك والدمار. عالم بات فيه الإنسان العنصر الأرخص في مجتمعات ومجتمعات لا ترى حقنا في الآدمية. فمتهور من الغرب يقتل أبرياء عربا يسمى مجنونا ولا يستأهل التغطية الإعلامية، وعربي يقتل أجنبيا يسمى إرهابيا، بل تفرد للحادثة ساعات وساعات فضائية من النفاق والادعاء بالاهتمام. وبين الحالتين يضيع البشر وتزهق الأرواح بشكل بشع يدفع المرء لا إلى الاستقالة من متابعة الأخبار فحسب وإنما إعلانه الطلاق البائن منها.

٭ كاتب فلسطيني

د. صبري صيدم