كلمة الثورة في اللغة العربية هي مصطلح يطلق على "التغيير من واقع سائد سواءً كان سياسياً أو إقتصادياً أو صناعياً أو زراعياً الى واقع جديد" وهي مشتقة من كلمة "ثور"، وهي التعبير الحقيقي عن الفعل الميكانيكي الذي يقوم به الثور وهو في حالة الهيجان والغضب نتيجة لواقع سيء يعاني منه ويقاومه ولأحد الأسباب التالية مرتبة حسب الأهمية:
إرتفاع مستوى الهرمون الذكري في الجسم في موسم التزاوج وإفتقاده لأنثى من فصيلته
إنفكاك وثاقه بعد كبح حريته الفطرية في حالة أسر في حظيرة مظلمة وعدم تمتعه بنور الطبيعة وهوائها وطعامها
تعرضه للظلم والإضطهاد والإستفزاز وسوء المعاملة من القائمين على قوامته
وعملية هيجان الثور هي فعل ميكانيكي محض، يحدث كردة فعل أتوماتيكية نتيجة لضغوط غريزية في بحثه عن إطفاء غريزته الجنسية المشتعلة في جسده، أو توقه للحرية التي فطر عليها وافتقدها بالقيد في الأسر، وشعوره بالرفض والمقاومة لسوء المعاملة، وردة فعله الحركية للإستفزاز الذي يتعرض له، ويحدث هذا الهيجان الميكانيكي في غياب للعقل الراشد وإفتقار للوعي، حيث يدوس في طريقه كل ما يواجهه من بشر وحجر ونبات، وربما يؤذي نفسه في حالة الهيجان.
ولكن القرآن الكريم تعرض لكلمة الثورة بإضاءة مشرقة لمن يتدبر ويتفكر في قوله تعالى "وأثاروا الأرض"، أي استصلحوها بعد أن كانت بوراً، وسووها واستخرجوا صخورها وحولوها الى سهل خصب، وحرثوها وزرعوها، وغيروا حالها من أرض عقيمة جدباء لا تنتج الى أرض ولودة للنبات والثمار والظلال والجمال. وحدث ذلك بعمل شاق وعلى مراحل حتى أعطت الأرض ما كان ينتظر منها.
وهذا التفسير القرآني يتناسب مع معنى الثورة الحقيقي الكامن في العقل الإنساني ومن ضمنه العقل العربي الذي إجتزأ المعنى على الفعل الميكانيكي وهو مختلف تماماً عن ذلك. وحتى نصل للمعنى الحقيقي لمفهوم الثورة الكامن في العقل بما يتطابق مع القرآن الكريم نستعرض موجبات الثورة والمعطيات التي تمهد لقيامها.
اولا: نظام سياسي حاكم فاسد مهتم بمصالحه ومصالح رجالاته وأجهزته وأذرعه الشخصية الخاصة على حساب العامة.
ثانياً: عدوان خارجي يتحول الى إحتلال عنصري إنتهازي ظالم يحكم المواطن المحتل بالسوط والكرباج بمفهوم العبودية والعنصرية البغيضة
ثالثاً: واقع إقتصادي متهالك يقسم الموارد الوطنية قسمة ضيزى واضحة تستفز مشاعر السواد الأعظم للمواطنين، أو يتم نهبها من المحتل الظالم ويحرم أهلها منها.
رابعاً: واقع إجتماعي سيء ومتشرذم يخلق من الذات إعداءً لها
خامساً: واقع تعليمي وتربوي يتسم بالجهل وعدم الإدراك وقلة الوعي
سادساً: واقع ثقافي متخلف يتراوح بين الفكر الأيديولوجي المتعصب والمتطرف والفكر المتخاذل والمستسلم لما يخطط له.
بمعنى أن تعيش الأمة مرحلة سبات عميق جاذبة للفراش في فترة حيلولة الظلام الدامس التي تسبق الفجر، وتصبح مهيأة للصحوة التلقائية الفطرية. وأمامها خياران:
فإما أن تصحو من نومها ثم تنهض باتجاه النور في ثورة على الظلام
أو تظلل غرف نومها حاجبة للنور وتعود لسباتها بينما الأمم الأخرى سارية في سعيها لاكتساب رزقها وللتمتع بالطبيعة والنور ومباهج الحياة.
وإن قررت الأمة أن تصحو وتنهض وتسعى فإن ذلك يعني أنها بدأت تسلك طريقها للثورة بمعناها الحقيقي، وليس بمعناها المحدود الضيق بالقاموس العربي. إذن في قراءة للمفهوم الحقيقي لمعنى الثورة نجد أنها تمر في أطوار، تماماً كما يمر الجنين الإنساني أو الحيواني أو النباتي في أطوار حيث يبدأ من نطفة ثم علقة ثم مضغة ....الخ.
إذن في مفهوم القاموس العربي المحدود للثورة نجد أنها إجتزاء وإختزال لها في ردة الفعل الميكانيكية التي هي جزءٌ يسير من المفهوم الحقيقي الشامل لها والكامن في العقل البشري.
الثورة بمفهومها الحقيقي تمر في عدة مراحل، يسبقها مبررات وموجبات قيامها المذكورة آنفاً. وفيما يلي مراحل الثورة بمفهومها الحقيقي:
مرحلة الصحوة :
وهي إستشراق النور المنبلج من خيوط الفجر بعينين منفتحتين. والصحوة دائماً يصاحبها النور وهو التنوير، وفي هذه المرحلة يبرز طبقة النخب والطلائع من مفكرين وفلاسفة وقادة متنورين مثقفين وزعماء عظام أشداء وجبارين يجود بهم التاريخ على الأمم في مراحل سباتها لتغيير حالها، وهؤلاء النخب يبدأون مرحلة التنوير للمجتمع ، ويدعون لضرورة الصحوة. إذن الثورة تبدأ بانبعاث الفكرة وتسويقها لدى فعاليات المجتمع. لتصبح نبراساً يضيء للعامة الطريق.
مرحلة إستعادة الوعي:
بعد عملية التنوير التي يقوم بها نخب المجتمع وطلائعه ، تبدأ الأمة باستعادة وعيها، وتنظر بعين الغيرة الى واقعها المتردي والمتراجع مقارنة بالأمم المتطورة، وتأسى وتتألم لعدم لحاقها بركب الأمم المتقدمة، وتجعل من هذه الغيرة والأسى والألم وقوداً لها للحاق بمن سبقها من الأمم متناسية العتاب والندم، وجلد الذات في إهدار للقوى الذاتية للأمة في غير مكانها المناسب المستحق.
مرحلة الحراك والسعي:
وتتمثل في القيام من الفراش والوقوف، واستعادة التوازن الجسدي واللياقة البدنية بعد استعادة الوعي، ونفض آثار النوم والنعاس عن الجسد والتهيؤ للسعي، والبدء بالحركة في إتجاه الأهداف المرسومة، في حساب للخطوات لتكون متئدة وواثقة، تتجنب المواجهة المباشرة مع الواقع في ردة للفعل، لكي لا تقع بالحفر أو تتعثر وربما تهلك. لكي لا تفقد التوازن وتنكفيء من جديد وتعاود السقوط في مستنقع أشد خطورة مما كانت فيه.
مرحلة الثورة:
وتتمثل بالإنتفاضة الميكانيكية على الواقع السيء، في هبة جماهيرية حركية ضد الواقع السائد، تقودها غرفة عمليات للتحكم والسيطرة على هذه الثورة الميكانيكية بميزان العقل والحكمة، واستثمار الفرص المتاحة للتقدم خطوات نحو الهدف حتى لو كان بواسطة الحوار والمفاوضات في ترشيد للطاقة الحركية الميكانيكية للجماهير الثائرة. ويوجه غرفة العمليات تلك النخب الفكرية والطلائعية التي قامت بالتنوير، وهنا يبرز الإختلاف ما بين ثورة الثور وثورة الإنسان. ثورة الثور تحدث في غياب للعقل وانعدام للتحكم والسيطرة إلا بميزان الغرائز، وهي ثورة جسدية تفتقد الى الفكر والمنطق وتعتمد على القوة المادية التي يتمتع بها الثور فقط، أما ثورة الإنسان فيجب أن تكون محكومة بميزان العقل والفكر النير والحكمة والمنطق والسيطرة على مكابح الغرائز، لكي تحقق الأهداف وتتناسب مع العقل البشري الذي يتميز على العقل الحيواني.
مرحلة النهضة والتنمية:
بعد أن تحقق الحركة الجماهيرية الميكانيكية الإنتصار، وتنجح في تغيير النظام السياسي الحاكم أو تحقيق الإستقلال من نير الإحتلال الجاثم على الصدور،أو تغيير الواقع السيء السائد، يجب النظر الى الأمام دون التلهي في الولوج بدهاليز الماضي بمشاعر الثأر والإنتقام،وتبدأ القيادات الجديدة في عملية البناء والتطوير إبتداءً من وضع نظام سياسي عادل يقوم على مشاركة الجماهير التي حققت الإنتصار بكل طوائفها وألوانها دون تمييز، وإعادة النظر في المناهج التعليمية للنشأ، وتطوير النظام الإقتصادي الذي يوزع الإيرادات على تنمية المواطن بميزان الحق والعدل والمساواة. والنظر للمصلحة الوطنية العليا.
وأدوات الثورة مرتبة حسب الأولوية هي:
اولاً: الفكر والتنوير
ثانياً: الحوار والمفاوضات
ثالثاً: الحركة الديناميكية الناعمة والتي تتمثل في التظاهر السلمي الدؤوب، والفعاليات المجتمعية التي تعبر عن مقاومتها ورفضها للواقع بالعصيان المدني والإضرابات والإحتجاجات دون شغب أو تخريب.
رابعاً: الحركة الميكانيكية الخشنة بالفعل المقاوم بالقوة وذلك باستخدام السلاح البسيط بكل أنواعه في عمليات كر وفر.
الأدوات الآولى والثانية والثالثة تستخدم في حالات الثورة على نظام أو واقع محلي فاسد مكوناته من المواطنين الفاسدين. وإن استخدمت الأداة الرابعة يتحول الأمر الى إنقلاب، ويخرج عن معنى الثورة وتدخل البلاد في حالة إحتراب واقتتال وفوضى عارمة تؤدي الى ما هو أسوأ من الوضع القائم والأمثلة أمامنا جلية وواضحة.
الأدوات الأربعة جميعها تستخدم في حالات الإحتلال والإستعمار الأجنبيين مرتبة حسب الأولوية والحاجة، فإن تحقق الهدف من الأدوات الآولى والثانية والثالثة في تلك الحالة فلا حاجة للجوء الى الأداة الرابعة.
ولإسقاط المفهوم الحقيقي للثورة على ما حدث في ثورات الربيع العربي، نجد أنها كانت ثورات ردة فعل بامتياز تقوم على مشاعر الإنتقام والثأر، واستبدال دكتاتورية بدكتاتورية أشد فتكاً، وكانت ثورات الربيع العربي أشبه ما تكون بثورة الثور وهيجانه تفتقد لمراحل كثيرة من مراحل الثورة بمفهومها الحقيقي، حيث بدأت هذه الثورات العربية من الدرجة قبل الأخيرة في سلم الثورة الحقيقية كما هي كامنة في أحلام المواطن العربي الذي كان ينتظر الحرية والعدالة في النظم البديلة.
وكانت الثورات العربية بمفهوم الثورة الضيق في القاموس العربي عرضة للإختراق من الخارج الذي لا يريد لها الخير، وعرضة للتعثر والإنكفاء والفشل، حيث افتقدت الى التنوير والفكر المتحضر، وسيطر على قمرة قياداتها الفكر المتطرف المنحرف، وكان قادتها والمنظرين لها من غلاة المتطرفين المتأدلجين من علماء الفتوى المنغلقين المتشرنقين في شرانق التعصب الأعمى ونبذ الآخر وعدم القدرة على المحاورة والتحاور. في عالمنا العربي تم تطبيق مفهوم الثورة بالمعنى الضيق المحدود في القاموس العربي والتأكيد على أنه اشتقت من كلمة الثور دون النظر للمصطلح ولا حتى الإضاءة القرآنية.
كانت موجبات ومبررات قيام الثورات العربية قائمة وناضجة، وكان التغيير مستحقاً بالقياس الزمني، لكنه لم يكن مستحقاً وناضجاً بالقياس الفكري والثقافي والتربوي والتعليمي. لذلك كان التغيير للأسوأ وليس للأفضل كما هو الحلم المعشعش في خيال المواطن العربي. ولعل العقل العربي يستيقظ من خياله ويعود لصوت العقل والحكمة من جديد، ويحاول الإستفادة من التجربة الفاشلة، ونأمل أن يتحول اليأس الى أمل والكبوة الى نهضة وتعاد الكرة من جديد لتحقيق الأهداف والآمال العربية في ثورة بمعناها الحقيقي الشامل وليس المختزل والمجزوء في حركة ميكانيكية فوضوية كثورة الثور.
بقلم/ أحمد ابراهيم الحاج