باهتة وعلى غير العادة، جاءت احتفالات الفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية، لمناسبة انطلاقاتها، ابتداءً من ذكرى انطلاقة حركة «حماس» نهاية العام الماضي، مروراً بذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية، فحركة «فتح»، التي فجرت الثورة المعاصرة، إلى الذكرى السادسة والأربعين لانطلاقة الجبهة الديمقراطية التي صادفت ذكرى انطلاقتها الثاني والعشرين من هذا الشهر. سببان يمكن الإشارة إليهما لتفسير هذا التراجع في الاهتمام، الأول، هو أن حركة «حماس» أرادت أن تغلق الطريق أمام إمكانية أن تقيم حركة فتح مهرجاناً كبيراً في قطاع غزة، سيبدو وكأنه استفتاء شعبي، أما الثاني، فهو أن معظم الفصائل الفلسطينية بما في ذلك حركة «حماس»، تمر في ضائقة مالية، تستدعي الاستجابة للداعين حتى من هذه الفصائل، لتوخي التقشف في النفقات العالية، التي تتطلبها إقامة مهرجانات مركزية ذات طابع شعبي واسع.
على أن هناك ما يمكن إضافته، ولا تعترف به الفصائل إلاّ لماماً، وهو أن هذه المهرجانات لا تضيف شيئاً للفصائل، وان ثمة، أزمة في العلاقة بين الجماهير الشعبية، وبين الفصائل، لكونها تتحمل المسؤولية عما يكابده الشعب الفلسطيني.
الفصائل لجأت إلى أشكال أخرى من الاحتفال، أكثر تواضعاً وشعبية من المهرجانات الكبيرة، وهو أمر مهم خصوصاً بالنسبة لفصائل العمل الوطني التي قاربت أعمارها الخمسة عقود، لتؤكد بان تاريخ النضال التحرري الفلسطيني بعد النكبة لم يبدأ من الحركات الإسلامية، وان هذه الفصائل لم تبلغ سن التقاعد، ولا هي بصدد الالتزام بسن معينة للتقاعد طالما أن الشعب الفلسطيني لم يسترجع كامل حقوقه.
على أن المناسبات السنوية، لانطلاقات الفصائل وطنية كانت أم إسلامية، تتجنب حتى الآن، التقليد الأهم، والذي يتعلق بضرورة المراجعة السنوية، لما تم إنجازه، ولما وقع فيه هذا الفصيل أو ذاك من أخطاء تستدعي الاعتراف، والتغيير.
الفصائل تترك عمليات المراجعة للمؤتمرات الوطنية العامة، ومعدل انعقاد هذه المؤتمرات، يقترب من مؤتمر كل عشرة أعوام، والأهم هو أنه يتم التعامل مع مسألة المراجعة والنقد الذاتي وكأنه عيب، أو كأنه يأتي من باب رفع العتب والذرائعية.
منذ بعض الوقت، والمطالبات تتزايد في الساحة الفلسطينية، لضرورة إجراء حوار جدي وطني، مسؤول وعميق، حول الشأن السياسي، والاستراتيجية والمشروع الوطني، والخيارات، وأشكال النضال. ولكن مثل هذا الحوار الضروري، لم يجد من يتسلم رايته، ويدفعه نحو أن يتحول إلى حقيقة وطنية، مثمرة.
الجبهة الديمقراطية يعود إليها شرف المبادرة إلى البرنامج المرحلي الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية أواسط سبعينيات القرن الماضي، وكان ذلك تعبيراً عن الواقعية السياسية التي تتحلى بها الجبهة الديمقراطية، ولكن لم يحن الوقت لإعادة النظر في مكونات الفكر السياسي الجمعي الفلسطيني؟
ثمة جملة من القضايا الأساسية التي تحتاج إلى مراجعات جريئة داخل فصائل اليسار، وخارجها إلى الفضاء الوطني، الذي يخص الجميع وليس فقط اليسار.
على رأس هذه القضايا ذات الطابع الفكري، موضوع الالتزام الأيديولوجي خصوصاً واننا حركة تحرر وطني فلسطينية، فإذا حاولنا الاقتداء بحركة مشابهة، نجحت شعوب أخرى في تحقيق استقلالها فإننا سنجد تنوعاً واسعاً في أيديولوجيات قوى التحرر.
الفكر الاشتراكي حيوي وخيار أساسي في النظر في قضايا المجتمعات ولكنه في الحالة الفلسطينية يصلح منهجاً للتفكير خصوصاً في المستويات القيادية، لكنه لا يصلح للتحشيد، ولا ضرورة لأن يكون كل مناضل في صفوف هذا الفصيل أو ذاك ملتزماً بالفكر الاشتراكي.
مجتمعنا، معروفة طبيعته، ولا بد من مراعاة الثقافة والعادات والتقاليد المجتمعية، ما يتطلب تغيير نظرة الناس لفصائل اليسار، وكأنها ملحدة وشيوعية، ولا تحترم الأديان أو العادات والتقاليد والثقافة المجتمعية. ومطلوب داخلياً أيضاً إعادة النظر في مسألة التحالفات الطبقية صاحبة المصلحة في التحرر الوطني، وكذا موضوع المركزية الديمقراطية، أو العكس، ومسألة الحزب الحديدي، ما يعني فتح الباب لانضمام جماهير واسعة، غير قادرة على تلبية كل شروط العضوية الحزبية كما تنص عليها الأنظمة الداخلية لأحزاب اليسار.
أعتقد أن من المناسب، التفكير في تغيير الصيغ التنظيمية الضيقة، والاتجاه نحو المرونة، والمنظمات الحزبية المفتوحة، والقبول بتعدد الآراء داخل الحزب الواحد.
على الصعيد الوطني العام، مطلوب مبادرات فكرية سياسية، تستظهر أكثر العلاقة بين أشكال النضال، وأولوياتها، وعلى نحو جريء ومحدد في هذه المرحلة، إذ اننا لا نلحظ تميزاً واضحاً لليسار عن غيره فهو يتحدث كما الآخرين، شعارات كفاحية عالية، وضعف في أشكال النضال الأخرى التي تتصل بالمقاومة الشعبية والسياسية.
وعلى الصعيد الوطني العام أيضاً، وعدا عن الحاجة لمبادرات سياسية تتصل بمراجعة ضرورية لمكونات المشروع الوطني، الذي يتعرض للتهشيم من قبل السياسة الاحتلالية، وعدا عن الحاجة لقراء المستقبل وما ينطوي عليه من سيناريوهات، وحلول، فإن مسألة وحدة اليسار تظل تحظى وينبغي أن تحظى بأولوية فصائله.
على اليسار ان يجدد ذاته داخلياً، وان تتوجه فصائله بشكل حقيقي نحو أي صيغة تضمن له أن يتحول إلى قوة وازنة، طالما أن كل فصيل لم ينجح حتى الآن في أن يتحول إلى قوة مؤثرة في المشهد السياسي العام. بصراحة أمر وحدة اليسار محيرة جداً، ومستهجنة من قبل كل من يتابع الشأن الفلسطيني، خصوصاً وأن الفوارق البرنامجية والفكرية، والاجتماعية بين فصائله محدودة. ومطلوب من اليسار أن يبادر إلى إعادة بناء تحالفاته على الصعيدين العربي والدولي، خصوصاً في ضوء ما تتعرض له المنطقة من صراعات ومؤامرات.