حماد الحسنات في رحاب الله

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

إنه واحدٌ من الربانيين الأخيار، من رجال الله الأطهار، من المخلصين الأبرار، من السابقين الأولين، والثلة الأولى الكريمة، التي حملت الأمانة ورفعت الراية، وخاضت الصعب، وتحدت المستحيل، وواجهت العقبات، وانتصرت على الصعاب والتحديات، وعملت في الليل والنهار، في ظل الإدارة المصرية للقطاع والاحتلال الإسرائيلي له، حيث القوانين القاسية، والاعتقالات المتوالية، والفقر الشديد، والحاجة الملحة، والمخيمات المزرية، والحياة البئيسة، والمعاناة الدائمة، وانعدام السبل، وقلة الناصر، وغياب الحليف، وضعف الصديق، وغطرسة العدو وتآمر الغريب.

ولكن شيئاً من هذا لم يمنعه من مواصلة الطريق، واستئناف العمل، واستشراف المستقبل، والعمل بيقينٍ وأمل، وتجردٍ وإخلاص، ضمن فريقٍ من الرعيل الأول، المقدام الهمام، الثابت القدم، الراسخ العلم، العالي الهمة، الواثق الخطوة، الصادق النية، الحريص على الشعب والغيور على الأمة، يتقدمهم الشيخ الجليل، المؤسس والموجه، العظيم القعيد، الشهيد أحمد ياسين، وصحبه الكرام، ورفاق دربه، وأخلاء عمره، وشركائه في الدعوة والحركة، والتربية والمقاومة، من الشيوخ والأساتذة، والتجار والعلماء، الذين نذروا أنفسهم للدين والوطن، وخدمة الشعب وعون الناس، ورعاية شؤونهم والنهوض بأحوالهم.

كان الأستاذ حماد الحسنات أبو خالد، اللاجئ من مدينة بئر السبع، والمقيم في مخيم النصيرات، أحدهم وأولهم، وأميزهم شكلاً وأكثرهم حضوراً، وأنبلهم خلقاً وأشرفهم نسباً، الأستاذ المبدع، والمربي الفاضل، وصاحب القلم المميز، والفكرة الرائدة، والد الشهيد والأسير والمطارد، وهو السجين والأسير والمبعد المرحل، حمل الهم الفلسطيني صغيراً، وعاش معه عمراً وسنين طويلة، لم ترغمه الهموم على النسيان، ولم تجبره العواقب والتهديدات على النأي بالنفس والرضا بالحال، ولم تيئسه التضحيات، وقد فقط الولد شهيداً، وتبعه آخر مطارداً، وسبقهم من قبل غيره، إذ كانوا على دربه مجاهدين ومقاتلين، أحدهم حملة البندقية، وآخر أشعل فتيل المقاومة، وأوقد نارها، وسعّر أوراها، ونقل جذوتها من غزة إلى الضفة، وكلهم كان يحظى برضى الوالد ومباركته، يدعو الله لهم، ويحتسب أمرهم، ويحمد الله على ما أصابهم.

إنه أحد رواد الجيل الأول، المربي الصانع، والحامي الراعي، والصادق الطيب، الكريم المتواضع، والزاهد العفيف، السمح الودود، والحاني اللطيف، المحب للناس والخائف على مصالحهم، ذو الابتسامة الدائمة، والكلمة الطيبة، والدعابة الحلوة، والتعليق الرقيق، والحضور اللافت، الذي كان له شرف التأسيس وفضل البناء، إذ شارك مع نفرٍ من صحابته الأخيار في تأسيس حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي ملأت سمع الدنيا وبصرها، وأرهبت العدو وأخافته، وأزعجته وأربكته، وقد أصبحت بمقاومتها حديث العالم ومفخرة الأمة، ورائدة المقاومة وحادية الركب وصانعة النصر.

لكنه رغم عظم الحركة وارتفاع رايتها، وتقدم رجالها وتصدر أبنائها، وانفتاح الدنيا أمامها واقبال الأمة عليها، إلا أنه بقي على حاله متواضعاً زاهداً، بعيداً عن المناصب، ونائياً عن المواقع، ومترفعاً عن المصالح، لا يطمع ولا يزاحم، ولا يقحم نفسه ولا يزج حاله، بل حافظ على سمته القديم، وحضوره المتواضع، وتعففه النادر، فلم يستغل العلو، ولم يغتر بالصعود، ولم يأبه بحمى التنافس ولا حرب التناحر، ولم يكن في فريقٍ ولا ضد آخر، ولا ناصر قطباً ولا ساعد طرفاً، بل كان وسطياً يحبه الناس، وحكماً بالعدل بينهم، يلجأون إليه ويبحثون عنه، ويتبعون مشورته، فرأيه راجح، ونصحه صادق، وقوله فصلٌ، وبيانه حكم، وحكمه رشيد.

اليوم يرحل حماد عليان الحسنات إلى عليين، ليسكن جنان الخلد والفردوس الأعلى، التي كان يتوق إليها ويشتاق، ويتطلع إليها ويدعو الله لنيلها، يلقاه رب العزة باشاً في وجهه، راضياً عنه، مرحباً به في السموات العلى، محباً له، وغافراً ذبنه، وقابلاً توبه، فهو العبد الصادق، التائب الأواب، الحافظ لكتاب لله والمتبع لسنة رسوله الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي سيلتقيه وصحابته الأطياب الأطهار الأبرار، الذين سبقوه على الدرب، وأسرعوا الخطى إلى جنان الخلد، اليوم يلقاهم ويسعد بهم، ويتربع بينهم، ويكون معهم ويجتمع بهم، يخبرهم ويحكي لهم، وينقل لهم ما شاهد وعايش، وما كان بعدهم، وما آلت إليه حركتهم، وما أصاب شعبهم، وما لحق بقضيتهم، وما نزل بساحتهم من سوءٍ وسقم، وجوعٍ وألمٍ، وقيدٍ وحصار، وتآمرٍ وتحالف، وغربةٍ وفرقةٍ، وخلافٍ وانقسامٍ، وفتنةٍ وابتلاء، ومذابحٍ ومجازرٍ، وقتلٍ بالجملة وذبحٍ على الهوية.

اليوم يلتفون حول القاص والروائي حماد الحسنات، الكاتب والأستاذ والشاعر، الأديب الأريب، الذي حافظ على التسجيل والتدوين، والكتابة والملاحظة، والوصف والعرض، والنصح والنقد، يصغون إليه السمع، ويفسحون له المجال ليحدثهم عن أحوال الأمة، وشؤون الشعب، فقد ترك أهله في قطاع غزة وهم يشكون الظلم، يتضورون جوعاً، ويموتون خنقاً، ويئنون من الوجع، ويعانون من الحصار، ويقاسون ويلاتٍ أشد من الحرب، وأمضى من القتال، وأشد قسوةً من كيد العدو وحيل المحتل، فقد غدا الشعب وحيداً، والقضية غريبة، وفلسطين مظلومة، وقد تبددت الأحلام، وغارت الوعود، وتخلى الأخ والشقيق، والحبيب والنصير.

أبا خالد ... والدي ووالد الكثير من أمثالي وأقراني وأترابي، ومن هم في سني وأكبر أو أصغر مني، فقد كنت أباً لنا جميعاً قبل أن تكون أباً حانياً على أولادك ومحباً لهم، إذ لم تكن تفرق أو تميز بيننا، إلا من أجاد وأحسن، وتقدم وتميز، وقد كنت تنصحنا وتكفكفنا، وتشاركنا وتنظم إلينا، كشابٍ في مقتبل العمر، ورجلٍ لا يعيبه أن يجالس الفتية والأشبال، وكنت تلاطفنا وتداعبنا وبعصاك تلاحقنا وتضربنا، فلا ينجو منك أحد، ولا يفلت من عصاك إلا من تعثر به الحظ.

رحمة الله عليك سيدي أبا خالد حماد الحسنات، وأسكنك الله فسيح جناته، وجعل لك من اسمك بين يديه عز وجل وقد أفضيت إليه سبحانه وتعالى، نصيباً من الأجر عظيماً، وحسناتٍ كجبالِ أحد، تكون لك قربى ولنا يوم القيامة شفاعة، فأنت رجلٌ عز نظيره، وقل مثاله، ونذر في زماننا أشباهه، فسنذكرك يا أبا خالد كلمات ادلهمت الخطوب، ونزلت بنا المحن، وحلت بوادينا الكوارث، وسنبحث عنك لنحتمي بك، ونستند إليك، ونقوى بعزمك، ونثبت برسوخك، ونصمد بإيمانك، وننتصر بيقينك، حتى نلقاك يوم القيامة، نبشرك بالنصر، ونزف إليك أخبار العودة والتحرير، رحمة الله عليك أيها الوالد العزيز.

بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي