أربعة أيام فرّقت بين حادثة الاعتداء الفاشيّ على النائبة حنين الزعبي في المركز الأكاديمي في رمات غان، وبين المناظرة التلفزيونية التي شارك فيها المحامي أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة، مع سبعة رؤساء قوائم آخرين وعرضتها القناة التلفزيونية الاسرائيلية الثانية يوم 26 ـ 2 الماضي.
ربما كان الاعتداء على النائبة الزعبي، حادثةً "عادية"، خطّط لتنفيذها نفر من أوباش اليمين الفاشي، الذين لاحقوا في الماضي وما زالوا يلاحقون، قيادات سياسية عربية ويهودية ديمقراطية، ونجحوا في بعضها، وسببوا للمعتدى عليهم أضرارًا جسدية وغيرها. خطورة هذه الحادثة أنّها تشكّل مشهدًا من فصل من رواية سيسجّلها "نقّاد المآسي"، في المستقبل غير البعيد، واحدةً من روايات الرعب التي كانت حروفها تسفك كل يوم على قارعات دروبنا وعتبات بيوتنا.
كانت مشاركة أيمن عودة لافتةً ومغايرةً، واستجلبت، لذلك، ردود فعل متباينة؛ فبعض المشاهدين العرب و"المحللين" انتقدوا نعومة كلام أيمن ولين خطابه، وتمنّوا لو أنابت القائمة المشتركة ممثلًا آخر عنها، يجيد ترديد رباعيات الردح ومزامير الغضب، فمثل ليبرمان وبينيت ودرعي، هكذا كتبت قلّة من المعلّقين، لا تنفع معهم لباقة ولا يسعف لسان ذرب سليط، حتى إن كان يقطر حقائق ووجعًا ووخزا. بالمقابل، كان تقييم كثير من المشاهدين العرب لمشاركة أيمن إيجابيًا وممتازًا، وعبّر هؤلاء عن راحتهم من مضامين مداخلاته، ومن الأسلوب الذي اختاره عن سابق قرار، كما شرح هو بنفسه، بعد المقابلة، حين حاول الرد على بعض منتقديه، وعلى بعض المزايدين المؤمنين، منذ اختراع الثورة الأولى، أن بالتصفيق وحده تحيا أوطان وأن بالهتاف يشاد بنيان.
قسّمت المذيعة، يونيت ليفي، التسعين دقيقة على خمسة محاور، حاولت أن تكون فيها منصفة، فحصّة أيمن قاربت على العشر دقائق فقط، مثله مثل باقي المشاركين. على قصر الوقت المعطى له، تحوّل، برأيي، بأسلوبه الهادئ وبمضامينه الواضحة، إلى الشخصية الأكثر جذبًا لاهتمام المشاهدين المتلقين. من الواضح أن المشاركين اليهود، باستثناء رئيسة "ميرتس" زهافا جلئون، كانوا يفضلون مشاركًا عربيًا نمطيًا، يناطح ليبرمان نطاح الفحول والوعول، ولا يجيد استعمال قلبه ولسانه، مع أنّ اللسان وسيلة البشر للقلوب ورسول العقول للعقول.
كلّي ثقة أن ليبرمان، حين وصف أيمن وقومه بالخونة وبالطابور الخامس، لم يتوقع أن يخاطب أيمن جموع المشاهدين ويذكّرهم في أي حزب يتفشى الفساد وكيف تتكاثر في أحزاب من يهاجمونه أجنة الجريمة، وحين تنّح "بينت" وتعمّد قذف سمومه العنصرية بدون هوادة، وهاجم العرب وعيّرهم بالانتماء لفلسطينيّتهم ووطنيتهم وتوّعدهم على ذلك، أجابه أيمن، بهدوء ميناء عكا وبوضوح عاشق من فلسطين: "أنا ابن الكرمل، أنا ابن الجليل وأنا فخور بانتمائي الوطني، متى ستتحدثون كالآدميين والبشر يا أبناء الماضي؟".
أعجب ممّن عابوا على أيمن هدوءه، ولم ينتبهوا لمن كان يسجّل النقاط في تلك المساجلة وعلى حساب من؟ كم كان هيّنًا على محاور عربي "شلقوط وشاطر" أن يقاطع فاشيًا، يستدر عطف مصوّتيه العنصريين صارخًا بشعارات تحريضية وديماغوغية قاتلة، بصراخ أقوى وبانفعال مصارع: "عد إلى روسياك، فهذه بلادي ولا مكان لكم أيّها اليهود معنا فيها"، وكم كان هيّنًا على محاور عربي "قبضاي" الانفلات بزعيق حتى البحاح، يطلقه في وجه ذاك العنصري وهو يعلن أمام شعب إسرائيل بأن هذا الأيمن العربي غير أهل بمواطنته الإسرائيلية لأنه خائن، ولأنه يتضامن مع شريكته في القائمة وهي تصف الجنود الإسرائيليين بالإرهابيين وترفض أن تدين قتلة الأطفال اليهود؟
مرّةً أخرى، لم يصرخ أيمن! بل، بهدوء الماس وصلابته، أخذ يدق على أجفان اليهود الناعسة، ويحرج من كانوا يحاولون التحليق على جناح وطنية صهيونية قاتلة، وبصوته الكاشف يوبخ ليبرمان متسائلًا: "هل تعرف، أن عاقلًا قد قال في أشباهك، إن الوطنية تكون أحيانًا ملجأ للخسيس"، قالها ومضى في إنسانية دافئة، وأعلن أنه فقير وأن أبناء قومه فقراء، وهو لذلك يعد أن يمثل في الكنيست كل الفقراء والكادحين، حتى أولئك الذين سيصوتون لدرعي وغيره.. فاليمين على أطيافه أوصلكم إلى طريق مسدود والاحتلال مأساتنا، وأكمل ينبه المشاهدين إلى أن القضية تبقى في ما يحوّله هؤلاء الساسة العنصريين من مليارات للمستوطنات، وهي على حساب ملايين الفقراء من عامة الشعب والمرضى والمسنين.. لم يتلعثم، ولم تشِ لغة جسده، كما رآها البعض، بضيق وحرج، فأنا شاهدته واقتنعت منه؛ أنه جزء من طبيعة هذه البلاد ولونها، تمامًا كما أوضح ليشاي وبينت والمشاهدين، وأنّه ينتمي لفضاء هذا الوطن الرحب، وأنه يشبه الصحراء في النقب، وظلّه ينام تحت سنديانة وارفة في وادي القرن، وهو ليس بحاجة ليفتش عن مكان بديل ولا عن وطن بعيد. بعد المناظرة، سجّل رصيد القائمة المشتركة ارتفاعًا ملموسًا في سلم الشعبية، وفقًا لما نشر في العديد من المصادر اليهودية. مشاركة أيمن تحوّلت إلى محطة نجاح ورافعة مهمّة، لم يستطع حقد العنصريين حجبها أو اسقاطها. بعض المشاهدين اليهود رأوا بما سمعوه وعدًا لفجر سياسي جديد، ليس فقط لأن أيمن أصر على أن يتحدث باسم المستقبل، والشراكة الحقة، بل لأنه تحدث عربيًا فخورًا بوطنية تفيض إنسانية، وأوضح بأنه شريك آدمي واع لإنسانيته، أنه يفتش عن شركاء للسلام وحلفاء لإنهاء الاحتلال والعيش بمساواة قومية ومدنية كاملتين.
لم يحاول أيمن أن "يطحن" من حاولوا استفزازه وجرّه إلى خانة الضحية البكاءة المتوعدة المتربصة المهددة والمنتصرة حتمًا على غزاة أرض أجدادها، سرّاقي بيّاراتنا وقطاع أرزاقنا، الكفّار، الصهاينة الأعداء، النهابين الذين يتوعدهم الله بالويل والثبور وبعظائم الأمور. تحدث، بدون خوف وكصاحب حق، والأهم أنه خاطب من قد يخسرون من قمارهم الخطير.
أربعة أيام مضت على تلك المناظرة حتى قرر غلاة العنصريين الاعتداء على النائبة حنين زعبي. ومن يدري فربما خطط المعتدون، علاوة على المس بالنائبة زعبي، إلى تذكير كثيرين من اليهود أن القائمة التي تحدث باسمها أيمن، هي أيضًا قائمة حنين الزعبي، وذلك في مسعى من هؤلاء، لمحو ما تركته تلك المناظرة من تأثير بين كثيرين من اليهود، فهل سينجح هؤلاء الأوباش؟ الجواب سيبقى عند المشتركة.
يتبع…
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس