الشهيد القائد أبو العباس فلسطين اشتاقت إليك

بقلم: عباس الجمعة

عندما امتطيت حصان المقاومة ومضيت من شمس لأخرى، كنت واثقا بأنك ستصل إلى مبتغاك، لم تكن وحدك، بل مضى خلفك ومعك مناضلين من الفرسان، استلّوا سيوفهم رافعين رايات فلسطين خفاقة للوصول إلى الوطن. وكلما سقط أحدهم في الطريق، انضم آخرون كثر إلى موكب القافلة ،وكنت قائدهم، تتعرج الطرق التي مشيتها منذ عملية الخالصة البطولية باكورة العمليات الاستشهادية للثورة الفلسطينية فكنت عظيماً بعد إغتيال الشهيد القائد أبو العمرين فؤاد زيدان ، وكانت بوصلتك لم تخطئ الهدف، فلسطين، وعلى الرغم من وعورة الطريق، منحدراتها وعثراتها، إلا أنك دائما كنت قادرا على التغلب عليها، صلابة إرادتك وعزيمتك، إيمانك بأن الهدف يستحق المضي في كل الطرق الوعرة للوصول إليه متسلّحا بالمبادئ التي ما بدلت ولا غيرت عنها خلال مسيرة النضال الطويلة.
لم تتعبك المسيرة، بل أتعبت من كانوا يراهنون على عدم قدرتك بالاستمرار،وضعوا أمامك كل العراقيل، ولكنك وباقتدار تخطيتها، حاولوا ثنيك عن التوقف بإغراءات لم تلتفت إليها، وركلتها لكي تستمر القافلة بمسيرة الجبهة نحو الامام ، وبقيت كالصخرة الشماء تحول الموقع إلى أداة عمل فاعل، وتحملت ثقل المسؤولية باقتدار،فبقيت قائداً ورمزا بلا منافس، كنت دائما تقول ان القيادة ايها الرفاق هي تكليفٌ وليس تشريفاً، ومن خلالها أرسيت قواعد القيادة، إنها مزيد من الفعل والعمل الجاد، هكذا علمتنا، لأنك قائداً ومعلماً.
صار الكفاحُ حياتَك، لم تعرف مستقرا إلا حيث يكون فيه موقعٌ لنضالٍ، ولم تعرف غير ثبات الموقف، واستقامة الفكر، رغم تعرجات الطريق، وطَّنت نفسك على حياة الكفاح، فاستطاب لك، وطابت معها النفس الملتحمة بصعوباتها والمتحدية لكل مصاعبها، هناك في سواد أيلول، في أحراش جرش وعجلون، في جنوب لبنان والبقاع، وفي سوريا والجولان ،في عبور الأردن إلى الوطن، تنسج شبكة من المقاتلين، تزودهم بالتوجهات والكلمات عن الاستمرار والصمود والتضحية، وصرخة واضحة كحد السيف، حين أطلقتها لحظة في مهرجان الجبهة بمخيم الشاطئ عندما دخلت اول مرة لارض الوطن ، وهي المقاومة ستبقى خيارنا ، كنت ترجمة حقيقية للموقف المبدئي للجبهة.
تعجز الكلمات عندما تتحث عن قائد شهيد، وما من أصعب اللحظات على القلم أن يخط كلمات تليق بالشهداء في تعداد المناقب مختصرة وموجزة بات إشكاليا، وتلخيصيا، يُفقد التفاصيل دورها في تكوين الجوهر العام لكل شخصية.
فأبو العباس، له خصائص ومواصفات القائد السياسي والعسكري مبكرا، لم تحرفه نقديته الجريئة ، فكان صمام أمانٍ وعامل تجسير بين النظرية والممارسة، بين الجبهوي والوطني وبين الوطني والقومي، وبينهما وبين الاممي، دون أن يفقد البوصلة، ودون مغالاة في تقدير أهمية كل طرف من أطراف هذه المعادلة التي يتشابك فيها صراعنا الوطني ويشتبك أحيانا.
فهو حين وطئت قدماه ارض فلسطين، بدأ يتلمس الواقع الجديد، فاكتشف أن لا بد من معالجة معادلة الوطن والشتات ، لافتا ان وجودي في فلسطين عزز معرفتي بالتفاصيل كاملة، كنت أعرف لكن معرفتي كانت ناقصة، لذا يجب الانتباه وعدم فقدان البوصلة ، هكذا كان الشهيد ابو العباس الذي خسرته فلسطين والأمة، فحين اغتالوه لم يختاروا عينة عشوائية لإشباع نهم الإجرام لديهم، أو حتى توجيه رسالة سياسية إلى طرف فلسطيني آخر، بل انتقوا ضحيتهم بعناية وهم يعرفون سلفا ماذا تمثل لشعبها وانتفاضته.
لقد شكل الشهيد القائد ابو العباس من خلال اشرافه على العديد من العمليات البطولية لجبهة التحرير الفلسطينية من خلال ابتدع الوسائل التي مكنت المقاتل الفلسطيني من الوصول الى غايته المنشودة عبر البر والجو و البحر ، فكانت عمليات الجبهة في الخالصة وام العقارب والزيب ونهاريا و الطيران الشراعي وكان المنطاد الهوائي وبرختا والعدسد من العمليات التي كانت باشرافه واشرف القائد سعيد اليوسف واكيلي لورو،ورغم الحصار كانت عملية القدس البحرية المكونة من ستة زوارق واربعة عشرة فدائياً يركبون أمواج البحر بزوارقهم الفدائية لتصل الى ميناء اشدود حيث درات معارك عنيفة بين مقاتلي الجبهة والعدو الصهيوني على طول الشواطئ الفلسطينية هذه العمليات كانت منارة مضيئة في سماء فلسطين، اضافة الى المعارك التي سجلت له شرف المواجهة وشجاعة قلّ نظيرها، في ميدان الفكر والسياسة والتنظيم، ومعارك المواجهة مع العدو في الميدان اثناء اجتياح وغزو العدو الصهيوني لبيروت عام 1982، واصابته في الرأس اثناء تفقده مواقع الجبهة المتقدمة ، وتأثره بفقدان رفيق دربه القائد سعيد اليوسف اثناء تفقده مواقع الجبهة من الجنوب الى شملان في جبل لبنان، فلم يتمكن العدو من كسر سيفك واستمريت بالمواجهة من موقع لآخر، مستخدما أساليب جديدة في كل مواقع النضال ، قارعت الحجة بالحجة كل المناوئين لمبادئك، وفرضت احترامك على من كان لجانبك ومن خالفك الرأي، حافظت على مسافة بينك وبين المختلفين معك، وتركت هامشا للحوار معهم لأنك تسلّحت بأدوات الفكر الإنساني.
لهذا الفارس الكبير في المخيّلة الفلسطينية مكانة الأيقونة، فكل من التقه او جلس معه، أحبه واحترمه، وأصيبوا في صحبته بعدوى الأمل من فرط ماهو صادق وشفاف، كان كثيرا مايحيل السؤال السياسي المركب إلى مسألة أخلاقية، وموعظة تبشيرية في فقه الحقوق والكرامة الوطنية، فلا شيء في نظره يبرر المساومة مع الظلم التاريخي الذي اقتلع شعبا من وطنه، وطالبه بتقديم البرهان على وجوده، كان فلسطيني بامياز وقومي علماني التفكير والسلوك.. وطنياً حتى النخاع، بالمعنى المعاكس لما هو رائج الآن، في الدفاع عن هويته الوطنية التي لم يجد لها معنى خارج هويته القومية، ومتحصناً بثبات المبادئ وتحولات الوسائل، كان من اشد المدافعين عن التعددية والوحدة الوطنية، وحل الخلاف في الرأي بالحوار..بالحوار فقط. لا بالسلاح والانشقاق.
كانت بنيته الفكرية والأخلاقية الواضحة شديدة الإحكام والتماسك والعناد. تمتع بكاريزما قيادية نادرة تستعصي على التفكيك، وحين ينزل عن المنبر الملتهب بكلماته الناريّة، وتجلس إليه في خلوة حميمية تستشعر بأنك في رفقة مناضل وثائر ٍ أو صديق حميم ، هادئ وشديد الدماثة، يتقن الاستماع إليك، وكأنه يريد ان يعرف منك أكثر ما تريد أن تعرف منه ، إنه تواضع الكبار الذين ينصتون إلى إيقاع الزمن المتغير، فوصفه الرئيس الشهيد الرمز ياسر عرفات بكلمة في احتفالات الثورة الفلسطينية عام 1981 وهو ينادي الامناء العامين بالاسم ايها الاخ الحبيب ابو العباس ايها المقاتل الشرس ، لأن ابو العباس كان مندفعا بإيمانه بعدالة قضيته وضرورة تحريرها من أسر السياسات العربية الرسمية والمساومات الدولية زمن الحرب الباردة، كان يحاول أن يخرج القضية الفلسطينية من سجنها العربي الرسمي كما من سجنها الدولي القائم على توازن القوى بين المعسكرين المتصارعين.
صفتان لا ينساهما الذين تعرّفوا على الشهيد القائد ابو العباس التواضع الجميل الصادر عن روح نضاليه كريمة ومدرسة ثورية ، هذا التواضع الذي يدفع المناضل المبتسم إلى استقبال زوّاره وتوديعهم باحترام كبير وإلى الاستماع إلى كلامهم دون مقاطعة أو نصائح مفتعلة وهذا ما رأيته في اكثر من مناسبة كان اخرها اللقاء مع الاستاذ نجاح واكيم رئيس حركة الشعب والدكتور اسامة سعد الامين العام للتنظيم الشعبي الناصري في بغداد اثر انعقاد مؤتمر القوى الشعبيه العربيه قيل الحرب على العراق , رجل متواضع يبعث الحياة " بيده الخاملة " ويضع زائره في مناخ أليف, بعيداً عن التراتيبية وعن كل روح مشغولة بالإدّعاء وبالكلمات الكبيرة التي لا تقول شيئاً مفيداً، والصفة الثانية هي : قوة الأمل , فلا أفق لمقهور إن فقد أمله , وبعد كل أمل خائب أمل يعد بأيام مزهرة , وبعد كل "خروج" فسحة من الضوء تعلّم اللاجئ إمكانية السير بشكل جديد، فهو من وقف الى جانب الثورة الإيرانية و دعمها لأنها ازاحت نظام الشاه الذى كان أحد الركائز المهمة في المنطقة في دعم الكيان الصهيوني ومخططاته، وقال بعد انتصار الثورة ان الخلاف والصراع ما بين العراق وايران صراعاً ضاراً بين قوى وبلدان عليها ان تتوحد في مواجهة المشروع الصهيوني، وهو من عارض الغزو ، وهو من دافع عن البلد الذي احتضنه والجبهة ووقف بمواجهة الهجمة الامبريالية الاستعمارية الصهيونيه على العراق ،هذا هو ابو العباس .
وامام كل ذلك اكد الشهيد ابو العباس بمواقفه ان انتصار المقاومة في لبنان هو انتصار للمقاومة في فلسطين ، وانتصار للمواجهة والتصدي للمشروع الاميركي الصهيوني في المنطقة، هذا الانتصار الذي يصبّ ضمن تيار التوجيهات الاستراتيجية التي ناضلنا من أجلها طويلاً، ومن اجل ترسيخها. فالحقوق تتنتزع ولا تعطى مجاناً والسلام العادل لا يصنعه إلا الأقوياء، وان المرحلة القادمة سنكون أمام مواجهات أصعب من ذي قبل على الصعيد الداخلي والخارجي في لبنان وفلسطين والعراق والوطن العربي كافة، ومواجهة سيناريو آخر وحلقة جديدة من المخطط الصهيوني الأميركي، وعلى الرغم من كل المؤامرات التي تحيكها الإدارة الأميركية في ما اصطلح على تسميته بـ"الشرق الاوسط الجديد" القائم على الحروب الطائفية وتفتيت المنطقة، إلا أن الوعي القومي العربي أصبح الحصانة الأولى للتصدّي لهذه المشاريع الاستعمارية الجديدة التي تقودها الادارة الاميريكية وحلفائها، واكد اننا نقف أمام تطوير تجربة المقاومة وحمايتها عبر هذا الصراع المفتوح، وقد أصبح اليوم وعي الجماهير هو أهم مرتكزات المواجهة.
الرمز الفلسطيني ابو العباس كان يقول العداء الذي لا يقبل القسمة على اثنين للمشروع الصهيوني الكولونيالي في فلسطين، والتمسك بفلسطين التاريخية من جهة، وبالحل المرحلي من جهة ثانية ، وهذا الموقف الفيصل يجب ان يبقى الاساس ، وبين الموقف التاريخي المتمسك بتجليات المربع الأول للصراع، ارض محتلة يجب تحريرها أولا وقبل كل شيء بحيث تكون كل الجهود لمعركة التحرير والاستقلال ، إذن فإن مجابهة الأخطار السياسية التصفوية,المتمثلة بالمشروع الأمريكي – الصهيوني , وكذلك مجابهة الأزمات والصعوبات التي تعاني منها منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية على أكثر من مستوى وصعيد تكون عبر إطلاق العملية الديمقراطية بعمقها وشموليتها وانهاء الانقسام والتمسك بالوحدة الوطنيه كسلاح امضى في مواجهة العدو ، وكشعار وهدف تلتف حوله الجماهير, وتغذية الطلائع السياسية , والثقافية , والاجتماعية بمبادراتها , وجهودها باستمرار .
الشهيد القائد ابو العباس كان نموذجا في العمل المقاوم أضف له الكثير من قدراته،فعمل دوماً على تحصين القلعة من داخلها بمواقف لا تعطي العدو فرصة الدخول من ثغرة هنا أو هناك، كان يدرك ثمن الموقف، لأنه مؤمن به، كان الشهيد القائد رمزا من رموز العمل الوطني ، مع عمق الانتماء الوطني ثم التنظيمي كانت وجهة نظره ورؤياه الوطنية ، لأن المسيرة الوطنية الفلسطينية بما فيها من انتصارات ونجاحات أو كبوات وعثرات و رغم الحواجز والعقبات أفرزت زنودا صلبة وأذرعا منتصرة وأكفاً متشابكة وأفكارا متعددة ولكن غدت متكاملة ، وشراكة عمدت بالدم كان منها الشهيد القائد فارس فلسطين ابو العباس وكانت منها جبهة التحرير الفلسطينية.
كان أبو العباس رمزاً من رموز الثورة الخالدة، وكان مثالاً وقدوة في الإخلاص والتضحية والتفاني والإقدام والشجاعة، وكان ومازال يمثل بمسيرته الكفاحية واستشهاده شعلة للفجر القادم، فجر الحرية والاستقلال والعودة ،ليس كغيره من عشاق فلسطين, عشقها حتى الثمالة شهادةً, و كان حين يغازل بندقيةً, يغمز من طرف فلسطين, الرائع في الأمر أن باقي عشيقاته تتجمل و تحمرّ وجنتاها عشقاً حين يغازل فلسطين فيها، كان مناضلوا الجبهة يزدادون تمسكا وعشقا بفلسطين كما مناضلو الثورة الفلسطينية, لا لشيء إلا أن فلسطين موسومة في كل ملامحها, في بسمتها, في ثنايا جسدها, في روحها، فكانت قوافل الشداء وفي مقدمتهم قادة العمل الوطني الفلسطيني الرئيس الرمز ياسر عرفات وطلعت يعقوب وابو احمد حلب وحكيم الثورة جورج حبش وابو علي مصطفى وعمر القاسم وسمير غوشه وحفظي قاسم وابو العز وأبو الرائد دودين ومروان باكير وجهاد حمو وابو كفان فهد وبرهان الايوبي وجميع شهداء شعبنا قادة ومناضلين.
ختاما : فلسطين اشتاقت إليك ايها الفارس العملاق ابو العباس , للورد في فلسطين أوانه, سنلبسها طرحة من الورد و تاجا من البنادق, ستغتسل لا بدماء الشهداء هذه المرة, بل من كل الدماء, و ستحيى أنت و كل الشهداء، ستشهدَ من عندك لون ترابها المثير, لتثور فيك الوطنية من جديد, فأرضنا هذه كلما عُتقت, ارتقت جمالا لعشاق جدد, لشهداء جدد, المفعمة بأرقى معاني الفداء في ظل مرحلة تعتبر بتناقضاتها الأكثر صعوبة وخطورة من عمر تاريخ ثورتنا وقضيتنا المعاصرة، وذلك من جراء استمرار حالة التصعيد والإرهاب المنظم التي تمارسه دولة الاحتلال الصهيوني، نقول الآن، وبعد احدى عشر عاما على صعودك إلى مقام الشهداء ومحرابهم، أننا في ظروف الجزر، بل ها هي الجماهير العربيةُ تتصدى لمشاريع تفتيت المنطقة التي حذرت منها ، لتصنع فجرا جديدا وحقيقيا للأمة ولتعيد بوصلتها الى فلسطين.

بقلم / عباس الحمعه
كاتب سياسي