اين جبهة التحرير الفلسطينية بعد استشهاد القائد الرمز ابو العباس

بقلم: عباس الجمعة

عندما نكتب عن الشهيد القائد الكبير فارس فلسطين والمقاومة " ابو العباس " فأنت في الواقع تكتب عن فلسطين الوطن،وعن قضية العرب الأولى،ومسارها،وسيرورة النضال الوطني الفلسطيني،ومشوار الكفاح للشعب الفلسطيني فقد تماهت صورة الرجل مع صورة فلسطين.

وإن أردت أن تتعرف على شخصية وهوية ابو العباس ،فأنت في الواقع تبحث عن هوية أمة في فكر الرجل، وفي وجدانه، وعواطفه، بل تبحث عن إضاءات في ظلام الأمة، وعن حركة قومية جسدت خيار وآمال أمة بأكملها.

لاغرو في ذلك فالرجل صاغ فصلاً سياسيا وكفاحيا في تاريخ فلسطين والأمة العربية ولم يكن ممكنا أن تتبلور شخصيته وتتحول إلى كاريزما وطنية وقومية،وكيانية مكافحة،مناضلة دون انصهاره وعيا، وفكراً، وعاطفة، وممارسة مع قضايا ومعضلات الأمة العربية الكبرى وفي القلب منها فلسطين الكيان المسلوب منه، فامتد بصره بعيدا نحو أمة تنهض وتبحث عن مكان لها تحت الشمس، وعقله يكشف مكنون اليمن السعيد، وأرض بابل، ووطن عمر المختار،وفعله بدأ من لبنان متزودا فكرا، وحيوية، راسما إطارا تنظيميا وسياسيا ونضاليا ، بدأها بعملية الخالصة باكورة العمليات الاستشهادية ، وبعدها بعملية ام العقارب ،وباستخدام كافة وسائل النضال برا وبحرا وجوا حيث صاغ مدرسة جبهة التحرير الفلسطينية وتاريخها وحاضرها كي تصنع مستقبلها مع رفاقه القادة الشهداء طلعت يعقوب وابو احمد حلب وسعيد اليوسف وابو العز وحفظي قاسم وقبلهم مع ابو العمرين ، ورفاقه الاحياء اطال الله بعمرهم .

لقد ملكته فلسطين واحتضنته اثناء ولادته بايام قبل النكبة،واصبح شابا،وطالباً،ومعلما ، ومناضلاً،وثائراً، فقد نسج من مخيلته وعقله، ووعيه، ووجدانه، وسهره،وأرقه، ودموعه خيوطا زاهية في متن الرواية التاريخية لوطن أضاعته مشاريع التأمر ، انصهر مع الرواية ،فكان هو والوطن تاريخ واحد في زمن واحد،هو والوطن نبض قلب واحد لجسد واحد،هو والجغرافية كيان واحد، وهل ثمة ثائر خارج الجغرافيا والتاريخ.

كان حالماً،وثائراً في وطنيته وعروبته وقوميته يكاسر الريح،ويعاند الأمواج العاتية حيث أدرك معنى وقيمة فلسطين عربية وهو من ردد عاشت فلسطين حرة عربية ، وهو من آمن باقوال الرئيس الراحل جمل عبد الناصر ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ، كمرادف لمعنى الانتصار والعلو،فتشكلت شخصيته القومية مع مسار الوعي القومي العربي،ومواجهة سياسات التقسيم والتفتيت الاستعماري،فحافظ على اعادة جبهة التحرير الفلسطينية الى دورها الطبيعي عام 1976 ، مؤمنا بضرورة الحفاظ على القرار الفلسطيني المستقل ، مؤمنا بالعمق العربي في معركة فلسطين .

كان متوحدا مع فكره الثوري أيا كانت مصادره،ثائرا قوميا،وثائرا وطنيا،وثائرا أمميا،حيث أعطى فلسطين بعدها الوطني والمركزي في النضال كان في الواقع يبحث عن كيفية وصول المقاتل الى فلسطين،وإبراز القيمة الثورية للهوية الوطنية الفلسطينية،وباحثاً موضوعيا عن محفزات الثورة الطبقية وأداة الثورة الاجتماعية والطبقية التي لا مصلحة لها إلا باستمرار الثورة.

وهنا لا غرو في القول أن الشهيد القائد ابو العباس كان ثائرا واحدا في أيديولوجيته وأهدافه، وممارسته، في قوميته ووطنيته وأمميته، فكانت حكايته من ألفها إلى يائها حكاية ثورة،حكاية أمة ووطن، لا بل حكاية فلسطين والثائر، الحكاية يستشهد بطلها في منتصف الطريق الشاق،ولم يزل الراوي يسرد فصول الرواية، وثمة من يسأل ، هل من بطل آخر يقتفي آثار ذلك الثائر المتحد مع الوطن والتاريخ والجغرافيا والشعب ليصنع مجدا وانتصار .

في ظروف عصيبة تمر ذكرى رحيل القائد والفارس الكبير ابو العباس، عصيبة على القضية الفلسطينية التي تشهد تحولات فظيعة وخطيرة وسريعة تعاكس كل ما عمل عليه الشهيد وأعطاه حياته وكفاحه، وعصيبة على المنطقة العربية وقوى المقاومة .

حيث عاش الشهيد وناضل، وهذا ما يجب أن نقف عنده في ذكراه، فألف تحية لكل تضحياته، ليست مفاجئة النهاية التي آلت بمصير القائد (ابو العباس)، بما إنها نهاية لقائد بحجم وتاريخ أبو ابو العباس، للمدرك والقارئ لطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، وأساليب النضال في مواجهة المد الثوري الفكري الفلسطيني الذي تبلور مع بداية الستينات من القرن الماضي، حيث اعاد صياغة ملامح المواجهة وانتقالها من حالة هجوم دائمة إلى حالة دفاع اتسم بالوجود أو اللاوجود، من جيل فلسطيني صقل الكفاح ، والنضال في تجربة فلسطينية استرشد بها كل من تبنى الحرية فكرا ومنهجا للتخلص من الاحتلال، مثل وجسد مدرسة ثورية قل نظيرها في الساحة الفلسطينية من حيث التواضع والالتصاق بالجماهير وهمومها،ودفء العلاقة الرفاقية والقناعات الفكرية العميقة وتغليب المصالح العليا للوطن على المصالح الفئوية،والمساهمة الجادة والفاعلة من أجل حماية منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها الوطني.

وأذكر انه في ذروة الانشقاق الفلسطيني الكبير بعد الانسحاب من بيروت لعب دورا مهما ولكن للاسف لم تنجح مبادرته هو والرفيق الامين العام الشهيد طلعت يعقوب ،وقد احتدم النقاش حول دور جبهة التحرير الفلسطينية وبهتان وعدم وضوح موقفها السياسي، وطال النقاش، واتخذ بعد رحلة العلاج الى موسكو قرارا بأنحياز الجبهة الى منظمة التحرير الفلسطينية واطلاق صرخة احتجاج من نيقوسيا على ما تتعرض له المنظمة ،واصبح النقاش محتدم حول ذلك مما دفع باغلبية قيادة وكوادر ومناضلي الجبهة الى الالتزام بتوجه الرفيق الشهيد القائد ابو العباس .

لقد استطاع الشهيدين القائدين الامناء العامون ابو العباس وطلعت يعقوب ان يعيدوا اللحمة التنظيمية الى جسد الجبهة في المجلس الوطني التوحيدي في الجزائر ،وتوحيد رؤيتها وموقفها السياسي من مختلف القضايا الاستراتيجية والسياسية ، ولكن رحيل الامين العام طلعت يعقوب اثر ازمة قلبيه حادة بعد انجاز الوحدة اعطى تأثيره على الجبهة ،وبدأ الشهيد القائد ابو العباس بالعمل على استعادة عافية الجبهة ودورها، وكانت الأمور تتجه نحو الخروج من الأزمات التي عاشتها الجبهة لفترة ، الا ان البعض لم يحلو له ذلك نتيجة الحفاظ على مكتسبات التي حققها لنفسه ، وجاء اتفاق أوسلو وما تركه على مسيرة الثورة والنضال والقضية الوطنية والجبهة نفسها من أثار وتداعيات سلبية،حيث بذل البعض في الساحة الفلسطينية جهودا كبيرة واستخدم ماكنة المال والتحريض والدس الرخيص ووظف كل طاقاته وإمكانياته وعلاقاته من اجل تشويه موقف الجبهة والضغط عليها من أجل قبول اوسلو والمشاركة فيه،ووصل الأمر حد شراء الذمم والحصار والتجويع وسد وتجفيف كل منابع المال عن جبهة التحرير الفلسطينية الا ان الشهيد القائد ابو العباس ومعه قيادة الجبهة اكدوا رفضهم لاتفاق اوسلو ووصفوه باتفاق سيئ،ولكن الجبهة بقيت امينة لمبادئها ووفية لشهدائها وأسراها ولشعبها ولتاريخها،وتجاوزت تلك المرحلة،رغم ما تركته على جسدها من أضرار،

ومن باب الحرص والغيرة على جبهة التحرير الفلسطينية التي شكلت بوصلة النضال الوطني الفلسطيني،وكان نموذجا ومثالا رائعا ورائدا للكثير من حركات التحرر الثوري ، ومن اجل الحفاظ على مبادئ ومواقف شهدائها وقادتها ،بأن ما آل إليه وضع الجبهة من خفوت صوتها النضالي والكفاحي،وتراجع ادائها وفعلها وحضورها ، ومن موقع النقد نابع من الحرص والمسؤولية،لا بد من استنهاض دور الجبهة واطلاق القدرات والطاقات المبدعة القادرة على إحداث نقلة نوعية على أوضاع الجبهة ومسيرتها في مختلف الميادين والمجالات،واعادة اعطاء عملها الكفاحي والنضالي دوره ، لتؤكد قدرة الجبهة على النهوض، وضرورة أن تقف الجبهة أمام أوضاعها بوقفة نقدية صارمة،ضرورة أن تعبر عن هويتها الفكرية والايدلوجية بشكل واضح،وضخ دماء جديدة في عروقها، وأن تنتهي ظاهرة العمل النخبوي والفوقي،مطلوب قيادات تتغلل في أوساط الجماهير، وأن تبتدع وتبدع أشكال جديدة ومتطورة للعمل والنضال وتستوعب كل الطاقات.

حتاما : نحن في الذكرى الحادية عشرة لغياب رمز الجبهة وامينها العام ابو العباس ، نقول علينا الحفاظ على جبهة التحرير الفلسطينية على تاريخها وأرثها النضالي والكفاحية بين أبناء شعبنا،ولشعبنا ثقة كبيرة بها وبأبنائها،والذين مثلوا حالات نضالية وتضحوية مميزة،وممكنات نهوضها وتقدمها، ويجب ان نمتلك وضوحا كبيرا في الرؤيا وقادر على التقاط الأحداث ومواكبتها، وأن يكون رائدا امام الجماهير في معاركها النضالية والجماهيرية في مختلف الميادين.

بقلم/ عباس الجمعه