في النصف الأول من مارس 2015 أعلنت بعض الفصائل الفلسطينية أن هناك خطة لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، الفصائل ذاتها كانت مشاركة في إجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الأخير وحاول بعض قياداتها كررت نفس الفكرة مدعّمة بدراسات لمركز أبحاث إسرائيلية أو مواقف لبعض الإسرائيليين التي تصب في خدمة هذه الفكرة، الكلام صحيح نسبياً وعفى عليه الزمن كلياً، ولم يعد مجدياً تكراره وإغفال جملة من الحقائق الكبيرة التي حدثت في الفترة التالية لسقوط حكم الإخوان في مصر، والتغيرات التي طرأت على شكل وهوية النظام المصري الجديد وما واكبها من تحولات في العلاقات مع أمريكا وحلفائها الشرق أوسطيين.
الخطة أو الفكرة إن لم تجد لها بيئة ملائمة لتنفيذها تبقى فكرة من ملايين الأفكار التي يتم تداولها في الشأن السياسي، هذا طبيعي جداً لأن الصراع مستمر لم ولن يتوقف منذ وجود المجتمعات البشرية حتى الآن، يأخذ أشكال مختلفة بقواعد مختلفة تتبدل فيه الأولويات وتعدل معه الخطط والأفكار، لكن الغريب في الحالة الفلسطينية هي حالة الجمود الخطيرة التي لم يشهد لها مثيل أي مجتمع في العالم، بفضل القيادات العاجزة التي تتخبط وتنسج أوهام تشغل بها نفسها وتحاول إشغال المجتمع الفلسطيني معها، لكي تستفيد من الوقت وتبرر وجودها وعجزها عن حلّ أي مشكلة مهما بلغ صغرها.
لا يمكن لأي فلسطيني أن يقتنع بهذه الأضاليل طوال العمر، فالتجربة بالحديد والنار والموت والعذاب والقهر كفيلة بأن تجعل من كل فلسطيني مملكة في التفكير والشك بكل ما يدور، والإعتقاد الجازم أن ما يجرى بحق مليون وثماني مئة ألف فلسطيني في غزة ليس بفعل إسرائيل لوحدها، وأن مأساة التشرد المستمرة التي تلاحق شعبنا منذ نشأة القضية دون حلول بفعل قوة وغطرسة وبطش الإحتلال وحسب، وإذا كان الإحتلال يفعل ما فعل، فما هو دور القيادة الفلسطينية في مواجهة ما فعل، وأين برنامج المواجهة الذي أعدّته لدرء أخطار الفصل الذي اكتشفته فصائل منظمة التحرير ومجلس المركزي ولجنتها التنفيذية في العام 2015، أي بعد غيبوبة عمرها يزيد عن ثماني سنوات؟
سأفترض أن إنشاء دولة غزة حقيقة قادمة لها كل أسباب النضوج والإنفاذ، وسأغفل كما تغفل الفصائل وبعض المثقفين الدور الوطني للشعب الفلسطيني في إسقاط "المؤامرة"، وأتجاهل التغيرات في جمهورية مصر والإقليم والعالم، وأعتبر أن قطر قد أتمت الإتفاق مع إسرائيل المفاوضات بشأن الهدنة والميناء والمطار، وأنشات قاعدة إقتصادية ضخمة في قطاع غزة تمكنه من الإستغناء عن موازنة السلطة في رام الله، حتّى عن نفقات الأغاثة والتشغيل التي تقدمها "الأنروا" ومعها المنظمات الأهلية، فماذا أنتم فاعلون لمواجهة هذا الخطر الداهم؟
حقيقة الأمر أن العجز والخوف والإفلاس السياسي يؤتي ثماره في عقول عدد لا بأس به من النخبة السياسية والثقافية الفلسطينية التي قبلت أن يستمر هذا الواقع منذ تولى الرئيس عباس السلطة مروراً بالإنقسام وثلاث حروب حتى هذه اللحظة، العجز عن وقف حالة التدهور في كل البناء الفلسطيني السياسي والإجتماعي والإقتصادي، والإفلاس عن التقدم بأي مبادرة تضع حد لحالة التآكل الحاصلة على المشروع الوطني، حيث بات التنسيق الأمني "مقدس"، والمشروع "المشبوه" المقدم لمجلس الأمن الدولي "عمل بطولي"، وعدم إغراق إسرائيل بملايين اللاجئين الفلسطينيين" واقعية سياسية"، والقبول بالإستيطان وتهويد القدس ومنع مختلف أشكال المواجهة مع الإحتلال "حنكة سياسية وسحب الذرائع"، والخوف من رئيس فاسد وناقم أقصى طموح لديه الحفاظ على الحكم كنافذة لزيادة ثراء عائلته التي تستثمر في "قطر" وتستفيد من أموال صندوق الإستثمار الفلسطيني وأموال الشعب الفلسطيني.
إسرائيل قوة إحتلال وإستيطان "إحلالي"، ولم تغير من طموحها بفلسطين خالية من الفلسطينيين، وتصرً أنها إستولت على "أرض بلا شعب"، طموحها أبعد من "دولة غزة"، فهي لن تتوقف عن محاولات تهجير ما تبقى من الشعب الفلسطيني، والذي لم تحققه الحروب تحاول تحقيقه بالحصار والتجويع وبالمفاوضات والمناورات السياسية، هذه خطتها الأصلية الأولى والأخيرة، لن تتراجع عنها في ظل الحالة البائسة التي أجبر الشعب الفلسطيني عليها، خطة واضحة ومعلنة ولا تحتاج عناء العودة إلى مراكز أبحاث وكتابات إسرائيلية لإكتشاف الهدف النهائي للإحتلال الإسرائيلي.
مواجهة مخطط الإحتلال تحتاج إلى قيادة فلسطينية وطنية وأخلاقية واحدة موحدة لها برنامج سياسي واحد، تسير بالفلسطينيين نحو الخلاص من الإحتلال وكل أشكال الإضطهاد والظلم أيّ كان مصدرها، قيادة لا تعاقب معارضيها بالسجن، ولا تبتزّه بالمال والرواتب، ولا ترهبه بالعصابات المسلحة والمداهمات، قيادة تقف إلى جانب المنكوبين والفقراء، تعزز صمود الشعب ولا تجعل من غرق بعض أبنائه على سفينة في عرض البحر حدثاً عابراً، قيادة تبكي على موت عائلة من غزة حرقاً بسبب قطع الكهرباء، قيادة تٌحاسب على موت المرضى في غرف العناية المركزة نتيجة نقص الدواء ووقف التحويلات الطبية، وتجيب عن مستقبل آلاف الخريجين بلا عمل، وتبحث عن نهضة لإقتصاد مدمر، وعن تنمية تحمي مئات الآلاف من الفقراء والمهمشين.
بقلم/ محمد أبو مهادي