عن الإسرائيليين وسفسطاتهم الانتخابيّة

بقلم: محمد خالد الأزعر

لليمين والوسط واليسار في إسرائيل معان ودلالات، ليست كتلك التي يتداولها فقه إيديولوجيات الاجتماع السياسي واتجاهاته. لقد أسبغ الفكر الصهيوني رؤاه وتكييفاته على هذه المصطلحات، بما أدى إلى انحرافها عن مضامينها التقليدية المعلومة. تتجلى صدقية هذه الملاحظة، في مساحة التلاقي والتقاطع الواسعة بين البرامج والأجندات السياسية، لمن يوصفون هناك بأهل اليمين وأهل اليسار.

ثم إن هذه المساحة تتّسع خلافاً لأي مألوف، عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع مستقبل عملية التسوية الفلسطينية. وعلى من تراوده الشكوك في هذه القناعة، أن يراجع برامج وأدبيات القوى السياسية الإسرائيلية المتنافسة بين يدي حملة الانتخابات النيابية الراهنة، ملاحظاً مواقفها تجاه مسار التسوية مع الفلسطينيين التي توحي بأننا بصدد أناس أكثرهم يمينيون بالفطرة. فالصهيونية تحمل عبوات فكرية ومضامين وتوجهات سياسية وغير سياسية لا يمكنها الالتقاء مع الأبعاد والمحتويات الحقوقية التقدمية والإنسانوية والديموقراطية، التي تقصدها وتتوخاها، بمقادير متباينة، مفاهيم أخرى من قبيل الوسط واليسار. انعكاساً لهذه الخاصية، يوشك جدل الساسة الإسرائيليين حول بعض القضايا الساخنة لديهم، أن يكون أقرب إلى السفسطة واللغو منه إلى التناظر الجذري بين مختلفين.

خذ مثلاً، أحاديثهم ومحاججاتهم بشأن مصير القدس والاستيطان، وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وحدود الدولة الفلسطينية المزمعة. هنا، لن تجد مبررات تكفي لوصف التراشق بين الساسة المتشاكين بأنه يصل إلى كسر العظم. وانظر، كمثل آخر، إلى ما يشاع عن خوف هؤلاء الساسة وأنصارهم من تحوّل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، في حال فشل حلّ الدولتين مع الفلسطينيين. في هذا الإطار، تجد أن كل المنخرطين في هذه الأحاديث، سواء قيل إنهم من اليمينيين أو اليساريين، يتعامون عن كونهم يعيشون الآن في نموذج لهذه الدولة بالفعل.

لا ندري لماذا يتغاضى هؤلاء وأولئك عن هذه الحقيقة، على رغم مؤشراتها وتجلياتها الخارقة للأعين، بالنظر إلى أن نحو 20 في المئة من حملة الجنسية الإسرائيلية هم فلسطينيون أقحاح؛ يعلنون انتماءهم، في شكل أو آخر، للوطنية الفلسطينية والقومية العربية؟ ولمن لا يعلم، ثمة تيار إيديولوجي سياسي ينمو بمرور الوقت داخل هذه "الأقلية" الشهيرة بفلسطينيي 48، ينادي سراً وعلناً باعتراف إسرائيل الدولة بها كأقلية قومية بكل ما يترتب على ذلك من استحقاقات. بل هناك في هذا السياق من يناقش خيار "تدويل" هذا المطلب. التجاهل الذي تبديه القطاعات الصهيونية اليمينية لأسباب معينة، واليسارية لأسباب أخرى، إزاء وضعية الثنائية القومية في إسرائيل، لا يعني انتفاء هذه الوضعية. ومحاولة النخب الصهيونية الحاكمة تذرية قوام المجتمع الفلسطيني الأصيل، وتقطيع أوصاله إلى فئات أو هويات منمنمة، مسوّغ تافه لتنحية حقيقته الوطنية أو القومية الواحدة.

على أن تفاهة التعاطي مع هذه الحقيقة، تبلغ مديات بعيدة جداً لدى بعض "اليمينيين" الإسرائيليين؛ الذين يطالبون بضمّ المناطق الفلسطينية المحتلة منذ 1967 برمتها إلى إسرائيل. ففي تقديرهم، أن خريطة التداخل السكاني (بين اليهود وغير اليهود داخل أرض إسرائيل)، بفعل الاستيطان اليهودي المكثف لهذه المناطق، ما عادت تسمح بحل الدولتين. ومن المؤكد أن مقاربة كهذه، تقوم على اعتبار أن الفلسطينيين، داخل الخط الأخضر وخارجه، لا يشكلون قومية يعتدّ بها، وإنما هم مجرد مقيمين لا يصعب على الدولة الصهيونية اليهودية معالجة شؤونهم. إنه التصوّر ذاته النافي لهوية الفلسطينيين الوطنية أو القومية، الذي يستهدي به اليمين والوسط واليسار الصهيوني في التعامل مع فلسطينيي 48.

غرور اليمين الصهيوني الإسرائيلي وعنصريته الفجة، يقودان إلى مثل هذا التفكير الأهوج. حجّتنا في هذا التقدير أن انضمام فلسطينيي 67 إلى فلسطينيي 48، يفرض على الجميع أكثر فأكثر الحديث عن الدولة الثنائية القومية. وإذا كان فلسطينيو 48 لا يمثلون، حتى الساعة، تهديداً بيِّناً لهوية إسرائيل، فإنهم مع مواطنيهم التاريخيين في بقية فلسطين، سيشكلون تهديداً قومياً وجودياً صارخاً لهذه الهوية. إن إغراق الصهاينة اليهود بمجموع الفلسطينيين وبهويتهم بين النهر والبحر، وإجبار إسرائيل على الاعتراف بثنائيتها القومية، أهون وأسهل بكثير من حدوث العكس. إذ من هو العاقل الذي سيجرؤ على نكران ثنائية هذه الدولة وفي جوفها شعب بكامله، يستحوذ على الاعتراف الدولي بهويته الوطنية والقومية وبحقه في تقرير المصير والدولة المستقلة؟

ليتجادل الصهاينة الإسرائيليون بكل أطيافهم السياسية حول آفاق التسوية الفلسطينية كما يشاؤون، لكنهم إن استطلعوا الحقائق واستنطقوها من حولهم، بشيء من الموضوعية والتجرد، فسيدركون أن حل الدولتين هو الممر الأكثر أمناً للإفلات بدولتهم. هذا فضلاً عن كونه حلاً مانعاً لديمومة الصراع وإراقة مزيد من الدماء بين أصحاب رؤيتين متناقضتين لا يمكن التوفيق بينهما تحت سقف دولة واحدة.

محمد خالد الأزعر

* كاتب فلسطيني