المراقبة اللصيقة لتصريحات نتنياهو خلال حملته الانتخابية وتصريحاته خلال الأيام والساعات القليلة التي سبقت الانتخابات، جسدت القناعة بثقة الرجل بالنصر المؤزر.
فهو لم يتحدث أبدا عن الهزيمة أو حتى النصر الصغير، بل بدا واثقا مما يقول ومتأكدا من الفوز العريض، حتى عندما قلص ما سمي باستطلاعات الرأي الفارق بينه وبين قائمة المعسكر الصهيوني التي تدعي اليسارية، وصولا إلى بعض الاستطلاعات التي أعطت ذلك المعسكر تقدما عليه بواقع 4 مقاعد.. الرجل تمسك بانتصاره المؤكد، بل ذهب باتجاه فتح حوار مبكر مع زعماء الكتل حول التشكيل الحقيقي للحكومة المقبلة، بل التفكير في خطط تعزيزية لعمل الحكومة المقبلة ومساحات عمل الوزراء الذين سيدخلهم هو إلى تشكيلة تلك الحكومة بمواقع جرى ضمنيا الاتفاق عليها، كحقيبة المالية التي سيتولاها الليكودي العائد إلى عالم السياسة موشي كحلون، الذي فاز حزبه الجديد بعشرة مقاعد.
وزارات نتنياهو لم تكن أبدا وزارات وهمية أو مشروطة بالانتصار، أو بالتكليف بتشكيل الحكومة، بل كانت لمن حدثه بها واقعية وموثوقة ومؤكدة، ولعل حديثه خلال عملية الاقتراع عن اقتراب موعد الانتصار لم يعكس موقف «بلدوزر سياسي» فحسب، وإنما كاريزما استبدادية تتحدث بعقلية إمبراطورية تفوقت على كل منافسيه. نتنياهو الذي أدار الملف الإيراني بعقلية «الفزاعة» وحمله معه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والكونغرس الأمريكي، أصبح رجل النظام الأمني الذي يحمل شيفرة تكوين وتشغيل وحماية دولة الاحتلال، معززا ذلك بقدراته الجارفة على التحدي وتنفيذ ذلك التحدي، من دون انفراط الأمور وتدهورها، «كواقعة» خطاب الكونغرس الأخير، الذي حاول الكثيرون إحباطه، من دون أن يتراجع نتنياهو قيد أنملة عن ذلك الخطاب، رغم ما شكل من إهانة واضحة لرأس الهرم في الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن النظام الأمني الإسرائيلي الذي يقود الدولة لا بد أنه قد أقتنع، كما يقول البعض، بقدرات نتنياهو على توظيف الفضائح لخدمته، حتى تلك المرتبطة بأقداح الخمر وزجاجاته وشؤون بيته ومدبريه، لذا فإن علاقة حاكم تل أبيب القديم الجديد امتلكت القدرة على إقناع الشارع بعناده وإصراره وتحديه وتوظيفه للكوارث لصالحه بصورة لا تمتلكها عميلة الموساد السابقة تسيبي ليفني ولا حليفها الجديد. لذلك لن يكون من المستغرب أن تدار مراكز استطلاعات الرأي المزعومة من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية بصورة تضبط معها إيقاع التقلب الانتخابي لضمان فوز حصانها بالمركز الأول. فالحديث عن تفوق المعسكر الصهيوني في اللحظات الفاصلة قبيل الانتخابات وبموجب استطلاع للرأي مثلا دفع ذلك المعسكر إلى الاسترخاء في العمل، وتراجع جهده الانتخابي باعتباره بات، وحسب تلك الاستطلاعات، يمتلك تقدما مريحا في برلمان يعتبر فيه الحصول على مقعد كالحفر في الصخر.
تغليب كفة نتنياهو على غيره وإعطاؤه مساحة واسعة لتصدر النتائج، تعني بالنسبة لمهندسي الاستطلاعات قـــدرة نوعية على مقارعة العرب بقائمتهم
المشتركة، وإغلاق الباب على أحزاب اليمين المزعج لنتنياهو واليسار، كميرتس الذي قلت سابقا بأنه سيصارع هذه المرة للوصول إلى نسبة الحسم. فهل وقعت صفقة بين الأمن ونتنياهو؟ وهل أدار ذلك الأمن ملف مراكز الاستطلاع، كما يقول البعض؟ وهل تكون هذه العلاقة بمثابة الفضيحة المقبلة لنتنياهو؟
أسئلة ستبقى تدور في خلد المدرسة السياسية الإسرائيلية التي وللمفارقة في أمرها، أن أحدا لم يخرج يوما من رحمها ليشكك بنتائج الانتخابات، بل عادة ما يسلم بالأمر ويتم استكمال المراسم حسب الأصول. أصول شكلت شبكة الأمان لدولة لم يعد فيها حزب يحظى بأكثر من 25٪ من مقاعد البرلمان في أكثر الأحوال تفاؤلا.
إذا مات نتنياهو الملك مع هذه الانتخابات ولد نتنياهو الإمبراطور الذي لا يستطيع أحد مجاراته اليوم، ولا توجد كاريزما توازيه، وهو القادر على تحدي أعتى دول العالم في عقر دارها ووسط عروشها ومنصات سيادتها. السؤال الأكبر: هل ستضفي هذه الشخصية تقديرا من العالم لمفهوم دولة إسرائيل وبقائها؟ أم أنها تراكم حنقا وغيظا لا بد أن ينفجر ذات يوم؟ بعض الفلسطينيين قالوا: فليعد نتنياهو إلى موقعه، كونه الرجل الوحيد القادر على مراكمة الحقد والنقمة على إسرائيل عبر صلفه وعنجهيته وغروره وقباحة عناده. لكن دولة الاحتلال لا تخوض معاركها على أرضية العواطف، بل على أرضية البقاء والاستمرار، حتى لو تطلب الأمر إدارة فزاعات جديدة تحقق الهدف المنشود بما يسمى بمفهوم: الإدارة بالترهيب.
٭ كاتب فلسطيني
د. صبري صيدم
