على وقع " الملهاة " أو المأساة التي نعيش , وبسبب حالة " القرف " التي انتابتنا في ظل أوضاع بائسة ويائسة يعيشها شعبنا الفلسطيني , وخاصة في قطاع غزة حيث أنصاف الحلول فمن ست ساعات كهرباء في اليوم , إلى ستة كيلو غاز في الجرة , إلى 60% من الراتب المعلوم أو المجهول في قادم الأيام , ومعبر مغلق معظم الأيام , وفي الضفة الغربية قتل وعربدة واحتلال واستيطان , بالإضافة إلى مأساة أهلنا في مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان , وهو ما دفع بأهلنا هناك إلى النزوح واللجوء في نكبة جديدة أودت بهم إلى أمواج البحر تبتلعهم على شواطئ العالم من ايطاليا إلى استراليا. وجدتني أكتب ما نعيش من حالة قرف سياسي.
حين كانت الغربة تقتلنا , مثلما كان الاحتلال يقتل أهلنا في الأراضي المحتلة , حلمنا بوطن نعود إليه نرتاح فيه من شقاء الغربة ووعثاء السفر , وذل الاحتلال والاستعمار والاستيطان , لكن الحلم غير الحقيقة , فبعد اكثر من عشرين عاما من اتفاق السلام في أوسلو , لم نجد الوطن وتبخر الحلم , بعد عشرين عاما لا زلنا نفاوض من أجل وطن تقسم إلى قسمين بفعل الصراع على " نصف سلطة "هنا وهناك , في غزة والضفة الغربية , ونسي الجميع أننا ما زلنا تحت " بسطار" الاحتلال , وتحت وقع القتل اليومي والحصار وتوسع الاستيطان , وتهويد المقدسات وضياع القدس , التي نسيها المتصارعون على سلطة زائلة , لا تقوى على توفير الكهرباء والغاز والماء والدواء في " إمارة " الجنوب , بينما لا تستطيع دولة الشمال إزالة حاجز اسرائيلي يقتل كل يوم شابا من الشباب الذين فاض بهم الكيل , وتملكهم الغضب مما يلقون من إهانة وذل على أيدي جنود الاحتلال .
وجدتني وسط هذه الأجواء والأنواء , وفي ظل تواصل الانشقاق والانقسام والخصام , والحديث عن الانتصار والانهزام , أستلهم بيتا من الشعر لشاعرنا الكبير الراحل محمود درويش في قوله " وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر " , لأعارضه بقولي " وطني ليس حقيقة وأنا لست منافق " , وإن كان محمود درويش تمنى ألا يكون الوطن حقيبة , وألا يظل الفلسطيني المسافر يحلم بالعودة للوطن , الذي قال عنه يوما , " هذا الشيء الممتد من الماء إلى الماء , لا هو وطن ولا هو خريطة " , هكذا شخّص درويش حالنا من سنين طويلة قبل عودتنا إلى ما هو " متاح من الوطن " , حسب تعبير شاعرنا الكبير أحمد دحبور , فيما هو متاح من الوطن المستباح مساء صباح , من جنود الاحتلال ورعاع المستوطنين الأوباش.
عشرون عاما من المفاوضات , وثمانية أعوام من الانقسام , بدأنا بغزة وأريحا أولا , وانتهينا بغزة ورام الله ثانيا , هذا حالنا اليوم , كيانان منفصلان , أو دولتان دون عنوان , وما بينهما جغرافيا ملبدة بالمناطق الداكنة والاحتلال الأسود , مقسمة ما بين مناطق ( أ. ب . ج ) , محصنة بالأسوار والحيطان ومعزولة بالاستيطان والجدران , واحتلال وحصار بين قتل ودمار , ونحن في صراع على كرسي مكسور أو مثقوب , نبحث عن شرعية مفقودة , الباحث عنها مجنون أو معطوب.
منذ اتفاق مكة عام 2007 , عام الانقسام والانهزام , إلى القاهرة والدوحة والشاطئ بعد ذلك بأعوام , لا زلنا نبحث عن المصالحة والوحدة وإنهاء الانقسام , لكنه الحلم والقوم نيام , ففي غزة والضفة الغربية توأمان لدودان , لا يحترمان أواصر الأخوة , ولا حتى وحدة الدم بعد أن سال قبل ثمانية أعوام , بعدها أصبح الدم يفرق الاخوان , كل منهما يدور في فلك نفسه , ولا يرى حدبة ظهره , قدران متباينان , كلما فكر أحدهما بالتقرب من الآخر , اشتعلت البغضاء بينهما , وارتفعت حدة التصريحات والهيجان , وباتت المصالحة في " خبر كان " , لكن القاسم المشترك بينهما , تعاهدهما على " الطلاق البائن " , ليحفظ كل منهما ما بين يديه من مكاسب.
وفي ظل " الخريف العربي " الذي ضرب أوطاننا , وانشغال العالم بما يجري هناك , حيث بات المجتمع الدولي ينظر إلينا دون مبالاة , والعدو يسرح ويمرح في أرض كنعان , ويحلم بــ " يهوذا والسامرة واورشليم " , ويضمها إلى دولة اسرائيل التي قامت على أرض فلسطين عام 1948 . مثلما يطالب بذلك نتنياهو وليبرمان الذي اكتسح الانتخابات بشعار الموت للعرب وبقاء الاحتلال , بينما نحن نواصل الخصام ونضع " الخوازيق " لبعضنا البعض , نتحدث عن حكومة وفاق دون اتفاق, وهدنة مفروضة ومقاومة ممنوعة , وبين هذا وذاك الوطن نزاع على كل شيء إلا الوطن , أيهما الأقدر على المصادرة والتملك , ايهما أكثر موهبة ومقدرة على قمع الانسان من جديد , في زمن الحكم بالقوة والحديد.
وهكذا يتكرس للفلسطينيين دولتان , دولة في الشمال ودولة في الجنوب , عاصمة الأولى رام الله وعاصمة الثانية غزة , تشتعل بينهما حرب التصريحات , واسرائيل تهوّد الصخرة والأقصى في قدسنا الشريف , وتمنع الآذان في خليل الرحمن, ولم يبق لقدسنا سوى رفع الشعارات , وتدبيج البيانات والمزيد من الإدانات.
بقلم / د. عبد القادر فارس