لطالما وقفنا في طوابير صباحية طويلة ونحن صغار في مدارسنا العربية نهتف للأمة العربية والوطن والوحدة والرسالة الخالدة والحرية والديمقراطية، ولطالما ألقيت على مسامعنا سير وقصص لملاحم البطولة لمعارك انتصرنا في بعضها، ومعارك ادعينا كما العادة بأننا انتصرنا فيها.
ولو دققنا في انتصارات العرب وهزائمهم فإنهم لم يخسروا في تاريخهم المعاصر، وحسب زعمهم، حربا قط، حتى تلك التي شهدت دمارا ماحقا وخسائر هائلة وسفكا مروعا للدماء. لم نخسر حروبا عدا ما له علاقة بنكبة فلسطين ونكستها وبعض الحروب التي ننقسم اليوم حول تفسير مفاهيم الفوز والخسران فيها. لكن معركة الكرامة التي أعقبت نكسة يونيو عام 1967 ودارت رحاها في الواحد والعشرين من مارس عام 1968 واستهدفت إنهاء العمل الفدائي الفلسطيني، ربما شكلت جراء الاستبسال الشرس للفدائيين في القتال والمقاومة أحد المفاصل المهمة في إعادة مراجعة مفاهيم الإصرار والصمود والانتماء وهزيمة العقيدة الأمنية والقتالية لجيش الاحتلال، الذي صوره البعض بأنه لا يقهر فكانت المعركة والقرية التي ولدت فيها اسما على مسمى.
لكن نكباتنا ونكساتنا اليوم وفي الذكرى السابعة والأربعين لتلك المعركة تطرح أسئلة كبيرة حول مفاهيم الإصرار والصمود والهزيمة ومصير الأمة العربية، التي أردناها في شعاراتنا أن تكون خالدة تمتلك رسالة واحدة تحكمها الديمقراطية والتعاون والتقدم. فحال الأمة العربية هي جمع لكل ما ورد في مسرحيات الدراما العربية وأفلامها التي صورت الواقع العربي الذي كان مشؤوما حسب تلك المسرحيات وبات اليوم معدوما. مسرحيات بمستوى «كاسك ياوطن» و»باي باي لندن» و»باي باي عرب» و»الزعيم». وأفلام بمستوى «الحدود» وغيرها من مخرجات السينما والمسرح العربيين اللذين توقعا انهيارا تراكميا، جراء التخلف والتقهقر والخطب الجوفاء والشعارات الفارغة وزوال العزيمة والإرادة وغياب الديمقراطية وسواد الظلم والتخاذل والجهل والفقر والقمع الفكري والسياسي. وبهذا انتقالنا من معارك ننتصر بها بالأمس إلى حروب نهزم فيها كل يوم، وبصورة أكثر وقعا، خاصة في ظل ازدهار وسائل التواصل التقني وانتشار التكنولوجيا، بحيث باتت الفضائح والانكسارات حاضرة في كل لحظة، وباتت معاركنا الصغيرة حتى الرياضية والثقافية توازي في انتصاراتها ما كنا نبحث فيه عن وسيلة للفرح والنشوة.
الأمة العربية لم تؤجر كرامتها ولم تتنازل عنها قط، لكنها باتت غائبة عن ساحة الفعل باتجاه زاوية التقهقر والضياع، بحيث باتت تحضر هذه الأمة ذاتها اليوم لسايكس بيكو جديد. لقد انفجر البعض منا ضحكا عندما قدمت المادة الدرامية العربية إشارات استشعارية حول حال العرب مستقبلا، باعتبار أن التفسخ لن يكون. لكن ما كنا ننكر قبوله بالأمس أصبح اليوم حقيقة واقعة. فحروب الطوائف وجيوشها ودولها وتقاسم المليشيات المسلحة لحقول النفط وتراجع الدولة لحساب الجماعات المسلحة واستبدال تنظيم «القاعدة» بالتمدد الأصولي داخل الأرض العربية باتت مجتمعة تؤسس لتحقيق طُرف ونكات الأمس وتوقعاتها. فاليمن في طريقه إلى أن يعود إلى سابق انقسامه، ويأتي معه إلى مربع التقسيم: العراق وسوريا وليبيا وغيرها.
لهذا لا بد أن نعترف عربيا بأننا، وإن لم نودع كرامتنا، فقد أصبحنا فريسة سهلة ومتاحة للجميع، وأننا لن نعود إلى مربع الحروب مع إسرائيل، وإنما إلى الالتهاء بقتال بعضنا بعضا لتنام تل أبيب هادئة مطمئنة وتشتعل عواصم العروبة من حولها. لذا فإن كرامة فلسطين وتحريرها والذود عنها لن يكون الأولوية إلى حين، خاصة أننا لا نسمع اليوم عن تحرير الأقصى بل حلب وطرابلس وصنعاء والقائمة تطول. وبهذا أستغرب ممن يستغربون قدرة نتنياهو على المناورة السياسية والاستخفاف بإرادة العالم والإفصاح صراحة وفي لحظة صدق غير مسبوقة عن عدم نيته السماح بإقامة دولة فلسطينية خلال عهده.
وهنا استحضر مقولة عربية تستند إلى قصة فرعونية قديمة وسؤالها الذي هو خلاصتها: يا فرعون مين «فرعنك»؟ فيرد فرعون قائلا: لم أر من يردني. تماما كما هو الحال مع فرعون الشرق الأوسط الجديد الذي يتوثب للعودة إلى رئاسة الحكومة في تل أبيب.
لقد غابت الكرامة العربية إذن.. لكن إلى حين ربما يطول؟
٭ كاتب فلسطيني
د. صبري صيدم
