1ـ تمهيد
ـــ الأمن القومى لأى دولة عبارة عن مجموعة من الثوابت التى لا تتغير تبعا لتغير منظومة الحكم، ثوابت يفرضها واقع الدولة الجغرافى والتاريخى والانسانى .
وهو فى مفهومه الشامل البسيط، يمكن أن يُعَرَّف على أنه كل ما من شأنه أن يؤثر فى قدرة الدولة على حماية أمنها وأمن مواطنيها ومصالحها القومية والاقتصادية، وكل ما يمس بقائها من تهديدات داخلية أو خارجية، وفقا لما تضعه لنفسها من معايير أمنية أو حدود جغرافية لأمنها القومى، تختلف بالطبع عن حدودها الاقليمية، ومن منظور متفرد ترى فيه، وحدها، تحقيقا لمصالحها وأمنها فى المقام الأول والأخير.
ـ والأمن القومى المصرى، شأنه شأن غيره، له حدوده الجغرافية التى تحددها مصالحه، أو التهديدات الموجهة اليه، حدود تبدأ من إيران وحتى عدن شرقاً، ومن السودان حتى تنزانيا ورواندي وبوروندي والكنغو الديمقراطية جنوباً، ومن المغرب غرباً، ومن تركيا وحتى سواحل أوروبا شمالاً، بكل ما يضمه هذا الاطار الواسع من دول عربية أو غير عربية.
ـــ هذا النطاق الجغرافى الواسع من البديهى أن يفرض حتمية وجود دور مصرى قوى وفعَّال، يستطيع مواجهة الدور الاسرائيلى، الذى له نفس النطاق الجغرافى، مع الفارق أن النطاق المصرى هدفه تأمين الدولة المصرية، بينما النطاق الاسرائيلى أحد أهدافه حصارها وإضعافها وتقليم أظافرها وتحجيم نفوذها والتحكم فى مواردها الحيوية، كنهر النيل مثلاَ موضوع دراستنا، وذلك لإلهائها فى مشاكلها الخاصة، وبالتالى تأمين جانبها وإخراجها من موازين القوى فى المنطقة دون حروب، خاصة إذا إتفقنا على بديهية أن الكيان الصهيونى سيظل مستقبلاً هو العدو الأكبر للدولة المصرية، لا ريب فى ذلك ولا جدال.
ـــ فالاسرائيليون، ومن منطلق ما يعرف بـ "الحرب المستحيلة"، يعلمون جيداً أنهم لا يملكون أية فرصة لتحقيق إنتصار عسكرى كبير وحاسم، يحقق أهدافاً استراتيجية لها أهميتها على الأرض، من خلال أى حرب نظامية محتملة مع مصر مستقبلاً لعدة أسباب، أهمها، فى رأيى، الأثر السلبى لمعاهدة السلام "المصرية ـ الإسرائيلية" على الجيش الاسرائيلى، تلك التى أفقدته إستنفاره وأدت الى إندثار الخبرات العسكرية التراكمية التى لا غنى عنها لكيان غريب غير طبيعى، يستمد بقائه فقط من إستمراره فى حالة الحرب الهجومية، على عكس الجانب المصرى، وبالتالى ظهرت أجيال جديدة لا تعرف المواجهة العسكرية بمعناها المفهوم، ولا الحروب النظامية الحقيقية بعد هزيمة اكتوبر 1973، خاصة فى ظل إستقرار جبهتها الشمالية فى "الجولان" عملياً بحالة اللاسلم واللاحرب منذ عقود، وبالتالى فقد الجيش الاسرائيلى القدرة على مواجهة الجيوش المحترفة، وتحوَّل الى قوات أمن كسيحة مزودة بألة عسكرية جبارة لا تستطيع إستخدامها أو حتى التدرب عليها بطريقة كاملة، فنجدها ترسل طياريها للتدرب فى الأجواء التركية على سبيل المثال، لذلك دائما ما توجِّه آلتها العسكرية، التى تصنفها كأقوى جيوش المنطقة عتاداً وتسليحاً وتكنولوجيات عسكرية، حسب تصنيف إتحاد الصناعات الأمنية الأمريكية IHS 2014، الى صدور المدنيين فى الأراضى المحتلة حتى لا تصدأ، أشبه بمن يستخدم المدفعية الثقيلة لإصطياد عصفور، من الأسهل كثيراً إسقاطه " بالنبلة ".
ـــ كان من الطبيعى أن يدفع ذلك بالاسرائيليين، ومَن ورائهم، الى تجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع مصر، والبحث عن سبلٍ أخرى أشد إيلاماً وأكثر ضرراً من الحروب، سواء بحصار النطاق الجغرافى لأمنها القومى وتلغيمه بالمشاكل الإقليمية، مروراً بمحاولات التغلغل فى جبهتها الداخلية، ونجاح مخطط تقسيم السودان، وبقية حلقاته الآتية لا ريب، بهدف إختلاق كنتونات ودويلات ضعيفة متعددة تحاصر الدولة المصرية، يصعب توحدها فى المستقبل، تخضع للسيطرة الامريكية كستار للسيد الاسرائيلى، فيصعب على مصر التعامل معها مستقبلاً حسب الأمزجة الشخصية لجنرالات كل كنتون، وليس نهاية بالأهم، أعنى العبث فى النيل .. شريان حياتها الرئيسى.
ـــ هنا يجب أن لا ننسى أن "جون جارانج"، الزعيم الجنوبى الراحل، نال درجة الدكتوراه من جامعة "أيوا" الأمريكية عن "أثر قناة جونجلي على المواطنين المحليين"، من الناحية السلبية بالطبع، وهى القناة التى من المفترض، أن تمنح مصر والسودان مناصفة حوالى 13 مليار متراً مكعباً من المياه التى تضيع حاليا فى مستنقعات الجنوب، والتى ترفضها دولة جنوب السودان كما سنعرض فى حديثنا.
أيضا ما سببه انفصال جنوب السودان من توحد رؤى وأهداف دولة الجنوب مع جارتها أثيوبيا التى تشترك معها فى الدين وفى العداء لأى نظام سودانى، والتى تشهد حضوراً إسرائيلياً مكثفاً، رتب الى إقناعها بتطويع مجرى النيل وتوجيهه وفقاً لمصالحها، مع تقديم المساعدات المالية والخبرات اللازمة لانشاء السدود، خاصة على النيل الأزرق الذى ينبع من بحيرة "تانا" الاثيوبية والذى يخرج منه 87% من مياه النيل التى سنشرب منها، إن بَقِيَت تتدفق!، لإبتلاع ما سنقرأه فى هذه الدراسة المتواضعة، وما نتوقعه مما ستحمله لنا الأيام.
ـــ ومع يقينى أن أى تصور يجب أن يضع أمامه بديهية خطورة سد النهضة الإثيوبى على الأمن القومى المصرى بمحاوره المتعددة، وقبل أن نصل الى مرحلة ذُلّ الذُلّ، حين تصبح مصر مرغمة على حماية السد الإثيوبى كما تحمى منشآتها الأستراتيجية ! كان لزاماً أن نتنقل بين عدة محاور تضع دراستها، منفردة ومجتمعة، ومن وجهة نظر جميع الأطراف، إطاراً تقريبياً لإدارة الأزمة، سأحاول، على إستحياء الباحث، وقدر جهدى الضعيف، أن أستعرضها، بإذن الله تعالى، فى حلقات موجزة على مدار الأيام القادمة، كآخر مشاكل النيل حتى الان، أو ربما، علِم الله، هى أولها !! وذلك حسب متابعاتى وفهمى الشخصى لمجريات الأمور من حيث:
أولاً: أهم المحطات في علاقة مصر بأثيوبيا عبر التاريخ
ثانياً: العلاقات التجارية المصرية الأثيوبية
ثالثاً: الموقف مصر السياسى والاجتماعى والمائى
رابعاً: الجوانب القانونية فى موضوع سد النهضة
خامساً: اتفاقية مياه النيل لعام 1959
سادساً: الأثر الشامل لسد النهضة
سابعاً: التغلغل الاسرائيلى فى النطاق الإفريقى وباب المندب
ثامناً: المشروعات المائية الإثيوبية الحالية والمقترحة
تاسعاً: مشروع نهر الكونغو
عاشراً: رأيى الشخصى المستمد من واقع الدراسة
وأكرر، وأؤكد، أن ذلك جميعه أعرضه على إستحياء الباحث، ولنفسى فقط ! فلا أحد يقرأ فى هذا البلد لأمثالى من البسطاء، إلا البسطاء من أمثالى ! ولا توجد جهة سياسية لا رسمية ولا حزبية، حتى الان، طرحت أبعاد المأساة داخل كيانها فى دراسة علمية تربط جميع عناصر العلاقات المصرية الأثيوبية، والمصرية الأفريقية، خاصة مع دول حوض النيل، ولو من باب تقديم المشورة الى صاحب القرار، الذى يبدو أنه يعرف القماشة النخبوية السياسية المتاحة أمامه جيداً، أو أنه غفل عما سواها فلا يرى من الوطن غيرها ! فقرر إنفاذ ما يراه، وحده، من سبل الرشاد !
ونبدأ من الحلقة القادمة، إن أراد الله، ثم أذن مضيفونا وكان فى العمر بقية.
والله من وراء القصد.
ضمير مستتر ..
يا لها من خطة عمياء لو أننى أبصر شيئا لم أطعها
ولىَّ الويل إذا لبيتها، ولىَّ الويل إذا لم أتبعها !!
د. ابراهيم ناجى
علاء الدين حمدى شوَّالى
كاتب وباحث سياسى مصرى
[email protected]