"أنا جنونك" لريتا عودة

بقلم: عبدالله دعيس

أنا جنونك" مجموعة قصصية للشاعرة والكاتبة الفلسطينية ريتا عودة. وعنوان المجموعة هو عنوان أحد  نصوصها التي تزخر ب"أنا". "أنا" الأنثى بكل ما تحمله من شعور وألم وأمل وما يحيطها من جنون الاحتلال والظلم والفقر والجهل. العالم حولها مجنون، لكنها لا تفقد عقلها وتتّبعه في جنونه بل تُبقي على حلمها الذي يُبقى شعلة الأمل متقدة في صدرها.
نلمح في قصص ريتا عودة الأنثى المقهورة في ظل الاحتلال، المتمردة على قوانينه ووجوده وعلى الفقر والبطالة والعوز التي خلفها في ربوع وطنها المكلوم. الأنثى الحالمة التي يحاصرها الألم، لكنه لا يستطيع سلب حلمها فيبقى الأمل نبراسا يقودها.
تعلن الكاتبة من خلال شخصياتها الثورة، وتبدأ بالثورة على المحتل والتمرد على قوانينه. فترمز للمحتل بالشرطيّ الذي يحاول أن يقهرها، لكنها تتمرد عليه وتحاول أن تفقده أعصابه، ثم تتجرأ عليه وتعبر الشارع دون التفات للإشارة الحمراء، معلنة أنّه لا رضوخ لقوانين المحتل. والمحتل، في بعض أقاصيصها، هو لب المصيبة ومنبع البطالة والفقر. والفقر هو العدو الذي تحاول الكاتبة أن تفضحه وتعري أوجاعه من جوانب مختلفة وفي نصوص متعددة.
وظلم الأنثى، ليس مصدره الاحتلال أو الرجل فحسب، فالأم قد تظلم البنت وتحصرها في عمل البيت وتحرمها من فرصة اللعب والمتعة، لكنها لا تستطيع أن تحبس خيالها. والأب يحرم البنت من الارتباط بمن تعشق، ويحاول أن يخنق حلمها قبل أن ينهي حياتها بطريقة ساديّة، لكنها تبقى تحلم وتأمل بمستقبل مع من تحبّ، حتّى ولو فرّق الموت بينهما.
تبدو الكاتبة في نصوصها بعيدة عن الواقعية، منتصرة للرومانسية، مغرقة في الحلم. تدير صراعا بين الواقع والحلم، لكن الحلم والأمل ينتصران دائما في نهاية المطاف. فالمرأة هي التي تحلم وتسبح في خيالها بعيدا، وهي التي تشكّ في إخلاص الرجل وحبه، والرجل يظهر غالبا بصفة الحريص على الحب المحافظ عليه، فهو أكثر واقعية من المرأة التي توشك أن تحطم حبّها بيديها بسبب أحلامها وشكّها. لكن الرجل يغرق أحيانا في الأمور المادية ولا ينتبه لمشاعر المرأة الجياشة المتدفقة.
وتتعرض الكاتبة في نصوصها إلى علاقتها بالآخر، أي اليهودي الذي يشاركها المدينة والحيّ. وتظهره بصورة المحتل المغتصب الذي يفرض الفقر والجوع والجهل والتعصّب، ويحرمها من فرصة التعليم والانطلاق، لكنه لا يستطيع أن يقيّد حلمها أو أن يطفئ شعلة الأمل في نفسها. ومع هذا فهي لا تنفي عنه صفة الإنسانية رغم قسوته وغطرسته، بل تنظر أحيانا إلى الإنسان فيه؛ فهي تفكر في ذاك الشرطيّ الذي قد يكون له عائلة أو مشاكل تحاصره، وتتعامل مع جاراتها اليهوديات في حيفا أو في الناصرة العليا بواقع الجيرة لا بواقع المحبة والصداقة. لكن إنسانيّة المحتلين، في النهاية، هي إنسانية مبتورة مسخت باستعبادهم لغيرهم واغتصابهم لحقهم في الحياة.
تمتاز نصوص ريتا عودة بالخيال الواسع. ففي قصة "قطرة مطر" مثلا، تُنطق الكاتبة القطرة وتجعلها شخصية حيَة تطوف البلاد بحثا عن مكان تهبط فيه. وتستغل الكاتبة هذه القطرة بذكاء لتشير إلى الكثير من المشكلات الكامنة التي قد لا نراها، لكن قطرة المطر الهابطة من السماء تكشفها وهي تختار طريقها بعناية لتحدثنا عن الخير والشر الذي تصدفه في هبوطها. وفي نهاية المطاف، تختار أن تهطل على المرأة المقهورة لتندمج مع دمعها المنهمر ألما.
وترى الكاتبة أن الحب لا يتعلق بالجسد أو العمر، وإنما يتعلق بالمشاعر الصادقة. وتعتب على الرجل الذي يجذبه جمال الأنثى ولا ينظر إلى جوهرها، فالجمال ليس هو معيار الحب. فتلك فالمرأة، في قصة "زرقة البحر"، تعشق الرجل الأكتع ولا تنتبه إلى يده المبتورة، بل إلى روحه وحبه الصادق ومشاعره الفيّاضة.
لغة الكاتبة شعرية، غامضة أحيانا لكنها بسيطة بشكل عام، يمكن فهمها والوصول إلى مراميها والمعاني من وراء النص بسهولة ويسر دون إرهاق للقارئ. وتستخدم الكاتبة الرمز في نصوصها كثيرا، فالشرطي يرمز للمحتل، والجلوس على المسمار هو تجرع الألم النفسي، والسنونو هو الفتاة العاشقة المعذبة الحالمة.
تبدأ الكاتبة مشوارها في هذا الكتاب بالقول:
"
يكفيني فخرا أن أكون قد تمكنت من التعبير عن موقف ما ولو مرة منذ أدركت كوني أحيا في وطن مغتصب."
 
لكنها لا تترك المحتل يسلبها الحبّ والحلم والأمل، فتعلن أن الحياة لا يمكن أن تكون دون حب.
 "
لكن جسدا بلا قلب كنهر بلا ماء."

عبدالله دعيس: