لم يكترث الرجل العجوز كعادته بالنقاش المحتدم بين ضيوفه، لم يلتفت اليهم البتة والكل يدلي بدلوه في جب السياسة ومتعلقاتها، هو ذات الجدل الذي اصابه بالملل وهو يستمع اليه على مدار عقود عدة، تغيرت الاسماء ولم تتغير العناوين، المتغير الابرز في المشهد ان المشاهدين تركوا مقاعدهم واعتلوا المسرح، اندمج الجميع في السيناريو دون ان ينتبهوا الى مقاعد المسرح التي خلت من اصحابها، امسكوا تباعا بمنصة الخطابة وعرض كل منهم بضاعته، اصطدمت الكلمات في الفضاء الضيق بينهم، تعطلت حركة المنطق وبات رد الفعل هو المتحكم بتلابيب الكلام.
غابت الحجة في زحمة الاصوات المتعالية، التزم الصمت من خانته حنجرته عن مقارعة نظيراتها، هيمن بعد فترة وجيزة صاحب الاحبال الصوتية الغليظة بعد ان انهك منافسيه، عدل من جلسته معتزا بالنصر الذي حققه، وواصل هجومه دون هوادة، يؤمن بان خير وسائل الدفاع الهجوم، دون ان يعي بان ما يصلح في عالم الرياضة ليس بالضرورة يصلح في عالم السياسة، وان الخسارة الرياضية لا يترتب على صاحبها سوى التحلي بالروح الرياضية، فيما الخسارة السياسية تكلف المجتمعات الكثير من الالم والمعاناة، والاهم من ذلك ان لغة الحوار لها قواعدها تتربع عليها الحجة والمنطق.
وسط الاصوات المتقاطعة بين الفينة والاخرى ادرك العجوز ان المناكفة كعادتها اطاحت بلغة الحوار خارج الحلبة، المناكفة لا تبحث عن الايجابيات بقدر ما تنقب عن سلبيات الآخر.
بينما لف الجدل المكان، كان الرجل العجوز الجالس خلف موقده يعيد تسوية الرماد بملقطه، ثم لا يلبث ان يخط عليه خطوطا متوازية قبل ان يعمل على تسويتها من جديد، كان مهتما بان ينثر القليل من الرماد على الجمرات الملاصقة لدلة القهوة، يحاول من خلال ذلك ان يطيل من امد عملها، كان الجدل الدائر بين ضيوفه من الشباب اثقل عليه السمع والصمت في آن واحد، اراد ان يضع حدا لضجيجهم، سأل عن موعد عودة التيار الكهربائي، تقاطعت الاجابة من ارجاء الديوان، يكاد الجميع يحفظ جدولها كأنه بات من ملحقات جدول الضرب.
واصل شاب الحديث قائلا: عما قريب سنعود الى جدول الثماني طبقا لما نتج عن زيارة رئيس الحكومة الى غزة، نهض المزراع المتكئ على ذاته في الركن الذي اعتاد الجلوس فيه متضرعا الى الله ان يحقق ذلك، لم ينبس المزارع ببنت شفة خلال الجدل الطويل في السياسة ودهاليزها، فقط برنامج الكهرباء هو الذي اخرجه عن صمته، ان تحضر الكهرباء ست ساعات وتغيب ضعفها لم يعد كافيا لان يروي فيها مزروعاته، استأذن بالانصراف عله يصل الى ارضه مع موعد وصول الكهرباء اليها، استوقفه شاب وهو يقول له احترس من خيانة الكهرباء، سأله المزارع وهل للكهرباء خيانة؟، اجابه الشاب خيانتها عندما تحضر اليك وانت تغط في نومك.
بقلم/ د. أسامة الفرا