من اللحظة الأولى التي حجزت فيها دولة الصهاينة أموال الضرائب الفلسطينية، توقع العقلاء في الشعب الفلسطيني أن يعيد الصهاينة الأموال مجرد الانتهاء من الانتخابات الإسرائيلية، وقد تم ذلك فعلاً، وقررت إسرائيل الإفراج عن الأموال، وخاب فأل أولئك الذين سعوا إلى تجميل وجه السلطة من خلال الربط بين القرار الإسرائيلي احتجاز الأموال وبين انضمام السلطة إلى محكمة الجنايات الدولية.
لقد أفرجت إسرائيل عن أموال الضرائب الفلسطينية، فلماذا لم تفرج السلطة عن الرواتب؟ لقد توقفت إسرائيل عن جريمتها التي طالت حياة الموظفين، فلماذا تواصل السلطة جريمتها في عدم صرف رواتب الموظفين كاملة؟
مرة أخرى يحاول البعض تجميل وجه قرار السيد عباس، والإدعاء بأن عدم قبول أموال الضرائب يمثل موقفاً وطنياً بطولياً، يدلل على عدم الخضوع للضغوط الإسرائيلية، متجاهلين أهداف سياسة تجويع الناس، وتضييق الخناق عليهم، حتى يكون استئناف المفاوضات مقترناً بصرف الرواتب كاملة، ليكون مذاق الراتب مغمساً برائحة المفاوضات.
ما سبق ليس اجتهاداً في الرأي، ما سبق من رأي مأخوذ من تصريحين لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي قال عن أموال الضرائب: هذه أموالنا، فإما تعطونا إياها كاملة أو نذهب إلى المحكمة، لقد قررنا إعادة هذه الأموال إلى إسرائيل.
فلماذا قرر السيد عباس إعادة أموال الضرائب في هذه المرحلة، في الوقت الذي لم تتوقف فيه إسرائيل على مدار عشرين عاماً عن تطبيق سياسة المقاصة، وظلت تستقطع من أموال الضرائب الفلسطينية ثمن الماء والكهرباء والعلاج دون اعتراض من السلطة الفلسطيينة، فلماذا صار الاعتراض في هذه المرحلة؟ ولماذا صار الزج برواتب الموظفين في هذا الأمر، وهل الهدف منه الضغط على الإسرائيليين ام الضغط على الموظفين الفلسطينيين؟
الجواب على السؤال السابق جاء في حديث رئيس السلطة حين قال في المناسبة نفسها: هناك مساعٍ من بعض الدول للذهاب إلى مجلس الأمن (يقصد المشروع الفرنسي)، ويضيف: ونحن لا نعترض على الذهاب إلى مجلس الأمن، وقلنا رأينا بأننا نريد قراراً يحفظ حقوقنا.
السيد عباس لم ينتظر نتائج التصويت على المشروع الفرنسي الذي سيقدم إلى مجلس الأمن بعد أيام، السيد عباس استبق المشروع بتصريح خطير في حديث له مع تلفزيون العرب، حين قال بصوته: إنا جاهز للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نتان ياهو دون شروط مسبقة.
لن نسأل رئيس السلطة هنا عن مصير شروطه السابقة التي وضعها لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، ومنها الإطار الزمني للمفاوضات، ووقف الاستيطان، وإطلاق سراح أسرى ما قبل 1993، فهذه الشروط قد عبر عليها الزمن، ولكننا سنسأل عن رواتب الموظفين، وعن حياة الناس اليومية التي صارت رهينة لاستئناف المفاوضات.
خلاصة الحديث السابق تؤكد أن إعادة أموال الضرائب إلى إسرائيل ليس بطولة، وإنما وسيلة ضغط على الفلسطينيين كي ينشغلوا بأنفسهم، فصرف رواتب الموظفين بنسبة 60% هي سياسة تجويع متعمدة، لا تقل وحشية عن جريمة مواصلة حصار قطاع غزة، وستتواصل هذه السياسية لعدة أشهر قادمة، ولن يرى الناس فسحة اقتصادية لأوضاعهم المعيشية إلا بعد أن تستأنف المفاوضات العبثية.
هذا هو الكحل الموجود في مرود السيد عباس، فمن يعجبه هذا الكحل فليتكحل، ومن لا يعجبه، فليشرب مياه البحر الميت، أو يفتش عن طريقه أخرى حازمة وصارمة وحاذقة تأذن لمجموع الشعب الفلسطيني بإعادة صياغة قراره السياسي من جديد.