وضع مجموعة من الملتحين العلم الفلسطيني تحت اقدامهم وقاموا بدوسه، بينما كان رفاق لهم يرمون ثلاثة رؤوس مقطوعة في احد شوارع مخيم اليرموك. التكبير الداعشي يعلو وبراميل الأسد تتساقط على المخيم، والموت في كل مكان.
حصار من هنا وقتل من هناك، هذا هو مصير أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في الشتات. في الماضي حين كنا لا نزال نتطلع إلى مستقبل ما، كنا نتحدث عن المسافة الوحشية التي تم قطعها بين تل الزعتر وشاتيلا. أما اليوم، في زمن الأصوليات، فقد تغير معنى المسافة التي صارت تمتد من نهر البارد إلى اليرموك.
الاسرائيليون وعملاؤهم الصغار قتلوا الفلسطينيين وهجروهم لكننا لم نشهد ذلا وهوانا كهذا الذل والهوان. لا شيء يشبه ما يجري الآن. لم تغادر الفلسطينيات والفلسطينيون مخيماتهم طوعا تحت كل أنواع التنكيل إلا حين جاء هؤلاء الهمج، مدججين بالحقد والجهل والعته. حتى في تلك الحرب الوحشية التي شنها النظام السوري بواسطة عملائه من حركة أمل وسميت حرب المخيمات، لم نصل إلى هذا الحضيض، وبقي المخيم رمز الوجود وحق العودة. الانقسام الفلسطيني الذي صنعته أصابع المخابرات السورية التي استغلت حماقة البعض من أجل تحطيم الإرادة السياسية للفلسطينيين بعد غزو 1982، لم يستطع اختراق المخيم، فكانت حرب المخيمات الفتيل الذي أشعل الانتفاضة الأولى.
لكن منذ عام 2007 حين تسللت «فتح الإسلام» برداء جماعة أبو خالد العملة إلى مخيم نهر البارد، دخل المخيم كاطار وفكرة في تحدي الوجود. لم يسبق للفلسطينيين ان غادروا مخيماتهم بارادتهم، الا في نهر البارد. يومها شعر أهل المخيم انهم طردوا من مخيمهم قبل ان يطردوا، فالمجموعات المسلحة التي أطلقت على نفسها اسم «فتح الإسلام» كانت ابنا هجينا لزواج القاعدة بالنظام السوري. هذا الابن الهجين لم يكن يمت إلى فلسطين وقضيتها بأي صلة. هنا بدأت مأساة المخيم، وهنا بدا أن تصفية المخيمات ومعها تصفية قضية اللاجئين ممكنة.
كان لا بد لهذا العمل أن يكون نتاج التلاقح الإجرامي بين استبدادين، استبداد الطغمة الأسدية واستبداد الإسلاميين، ومن هذا التلاقح ولدت بدايات كارثة سوف تصل إلى ذروتها في مخيم اليرموك.
أطلقت حرب نهر البارد العنان للخطاب العنصري اللبناني ضد الفلسطينيين، الذي لم يكن كامنا يوماً، لكن هذه لم تكن المسألة الجوهرية في تلك الحرب المجنونة التي استخدمت فيها البراميل التي تلقى من المروحيات، وكان هذا هو المؤشر إلى دخول سلاح جديد سوف يصبح إعلانا صارخا لدخول سورية في أزمنة التوحش الداعشية الأسدية.
المسألة في حرب نهر البارد كانت تحطيم الهوية الوطنية الفلسطينية، عبر تغريب الفلسطينيين عن مخيمهم.
نهر البارد كان مختبر الجريمة، أما ساحتها فستكون مخيم اليرموك.
ما يقوم به القتلة والسفاحون في أزقة المخيم اليوم، ليس سوى وضع الناس أمام الخيار بين الطاعون والكوليرا، بين الموت بالبراميل والموت بالسكاكين.
نجح النظام في إفراغ المخيم من سكانه، وهذا ما فعله في كل مكان من الأراضي السورية وصلت اليها طائراته. من أكثر من 150 ألف نسمة لم يبق في المخيم المحاصر سوى 18 ألفا، يعيشون في المجاعة والخوف والإذلال والإعاشات المتقطعة.
أفرغ المخيم قبل دخول داعش، وصار أزقة أشباح هائمة، وإرادة صمود بطولية، اختبرت معنى عبثية البطولة في هذا الزمن الذي اندثر فيه الخطاب الفلسطيني الذي صار بلا بوصلة سياسية أو معنوية مع الانقسام وأوهام التسوية وتخيلات أمراء الباندوستانات الفلسطينية.
أبطال بلا بطولة، هذا هو اسم الهزيمة الفلسطينية المروعة والتي لا سابق لها في مخيم اليرموك. فصائل جبانة ومجموعات من عملاء النظام السوري تتلطى خلف الإسم الفلسطيني، وشعب ترك للتيه والإذلال إلى أن وصلت داعش وأخواتها كي تدوس العلم الفلسطيني، مثلما داست علم الثورة السورية، وكي تأخذنا إلى جنون الخلافة ودولتها وهستيريا عبادة العنف والدم.
لا نستطيع اليوم أن نلوم أحداً، كل كلمات إلقاء التهم على الآخرين صارت جوفاء. لا أمريكا مسؤولة عن موتنا ولا إسرائيل. موتنا صنعته قيادات سياسية لم تتصرف كما يليق بالقيادة ان تتصرف، وهذا يصح على فلسطين مثلما يصح على سورية، علما أن هناك فرقا شاسعا بين قيادة ثورة سورية كانت تتعثر في ولادتها وبين قيادة فلسطينية ورثت نضالا عمره نصف قرن وأهدرته على مذابح الوهم والفساد والسذاجة.
نحن أمام كارثة إنسانية تستكمل كارثة سياسية كبرى نعيشها. وأمام هذا الهول، وأمام هذا التوحش لا يحق لأحد أن يبكي.
كلا أيها الناس، لا بكاء ولا مناشدات. طز على الضمير العربي والإنساني. لا تصدقوا ضمير من لا ضمير له، إذا أردتم تحريك ضمائرهم فعليكم ان تنتزعوا الضمير الإنساني عنوة من سباته، واذا كنا عاجزين عن ذلك فلنخرس.
إنه تيمورلنك وقد انشق إلى نصفين، نصفه يحمل اسم نظام آل الأسد ونصفه الآخر اسمه داعش أو النصرة أو ما يشبههما. نصفه يراكم الأشلاء ونصفه الآخر يقطع الرؤوس. وهذا التيمورلنك يشبه جده التتري لا يفاوض لأنه يسعى إلى هدف واحد هو تدمير كل شيء وإفساد كل شيء، وغريزة الدم التي فيه صارت اسمه ووسيلته وغايته.
شعب اليرموك، برجاله ونسائه وأطفاله، الشعب الذي تحولت فيه أجساد الناس إلى هياكل عظمية، الشعب الذي صار علامة ذل كل الفلسطينيين وكل العرب وكل الناس، هذا الشعب المحاصر بالموت هو الهوية الفلسطينية والعربية الجديدة.
أيها العرب انتم في الذل والمهانة طالما بقيت سورية بشعبها وفلسطينييها ذليلة ومهانة.
الياس خوري