عاد «الجدي» بقواه السحرية من جديد، وبغض النظر ان كان ما ينزل من ثديه حليبا بفعل اختلال في الهرمونات، ام صديدا يقترب بلونه من الحليب من جراء مرض الم به، فالواضح ان ذكوريته اضفت على السائل قيمة جعلت منه دواء لكل داء، فبات الجدي وافرازاته ملاذا لمن اضناهم المرض، وبخاصة لمن يعاني من العقم بغض النظر ان كان الزوج او الزوجة سببا فيه، لا شك ان مرض العقم يلقي بظلاله على تفاصيل الحياة الزوجية، وعادة ما يستنفد الزوجان كل امكاناتهم المادية في العلاج، بل يجعلان من علاجه اولوية لهما عن المأكل والمشرب، لكن ذلك لا يبرر بالمطلق الهرولة وراء خرافة تطل برأسها في مجتمعنا بين الفينة والاخرى.
رغم ان حكاية الجدي الذي ظهر مؤخرا في قطاع غزة ليست بالجديدة، فقد سبقه اليها العديد من اقرانه على مدار السنوات السابقة، الا ان التعاطي مع الخرافة بقي على حاله، وعادة ما يتفاعل معها البعض بجدية تثير الدهشة والاستغراب، فلم يقتصر الامر على من انهك تفكيرهم الداء المقيم بهم، بل شاركهم في ذلك من هم خارج تلك الدائرة ويتمتعون بقسط وافر من التعليم، والحديث عن الخرافة في مجتمعاتنا لا يقتصر على الجدي وقواه السحرية، بل تتمدد وتتشعب الى جوانب عدة، وان كانت الامراض تستحوذ على القسط الاكبر منها، اخذت استمع مؤخرا لصديق وهو يصف جرعة علاجية من الاعشاب لمرض السكري، لم يكن حديثه يتعلق بخبر قرأه هنا او هناك بل بتجربة كان جسده حقلا لها، المهم ان الصديق يتحدث بثقة مطلقة عن نجاعة التجربة، وانه لم يعد بحاجة الى تناول المزيد من الادوية، بقدر ما حاولت امامه ان استحضر القليل من العلم المتعلق باسباب المرض، الا انه تقوقع على تجربته ولا يريد للعلم ان ينفذ اليها.
الخرافة تبحث عن الجهل والتخلف كي تقيم في ربوعه، والغريب ان الخرافة تتمدد في مجتمعنا رغم ان نسبة التعليم فيه تفوق مثيلاتها في الدول المحيطة بنا، بل اننا نفاخر بها بين الامم المتحضرة، لكن الواضح ان التعلم لم يحصننا من التخلف الذي يطل علينا احيانا بوجوه مختلفة، قبل عقود عدة سرت في قطاع غزة خرافة ان القبور تتحرك في مدينة غزة، لم يقتصر يومها الامر على حديث يتداوله الناس، بل هرع الكثير لرؤية الحدث رأي العين، عاد من ذهب يجر ذيول الخيبة، الا ان ذلك لم يكن كافيا ليعيد الخرافة الى كهفها، سيطرت لايام عدة على حديث الناس واثارت جدلا بين مؤيد ومعارض لها، لا يختلف البتة عن الجدل الدائر حاليا حول الانقسام.
لا شك ان الخرافة تدفعنا في كثير من الاحيان للتعلق بحلول سحرية لحل مشاكلنا، دون ان نكلف انفسنا اعمال العقل في ابجدياتها، قبل سنوات كنت استمع لمناظرة تلفزيونية بين المرشحين للرئاسة الاميركية حينما تناول احدهما مشروع التأمين الصحي في برنامجه الانتخابي، بقدر ما كان مشروعه يلبي طموح المجتمع الاميركي، بقدر ما بات محط تساؤل، فمن اين سيأتي المرشح بالاموال التي سيغطي بها تكاليف ذلك؟، هل سيلجأ المرشح في حال فوزه الى فرض المزيد من الضرائب ام الى رفع سقف الموجود منها؟.
فعلت خيرا وزارة الزراعة ان قررت التخلص من الجدي، فكيف يمكن لنا ان نتخلص من «الجدي» الذي نستحضره في معالجة الكثير من مشاكلنا؟.
بقلم/ د. أسامة الفرا