لقد أثار اعتقال السيّدة خالدة جرار موجة من التضامن في العديد من الأوساط العالمية والمحلية. خالدة جرار هي نائبة منتخبة في البرلمان الفلسطيني، وقد تم اعتقالها في ساعات الفجر المبكّرة من بيتها في مدينة رام الله الفلسطينية.
بعد التحقيق معها لوقت قصير جدًا، حوّلت إلى السجن بناءً على أمر أصدره قائد جيش الاحتلال الاسرائيلي، ويقضي بإبقائها وراء القضبان لستة أشهر، بحجة أنها، وهي حرّة، تهدد أمن وسلامة الجمهور. لم تحرر بحقها أي تهمة عينية ولم تواجه بأي بيّنة أو دليل يثبت ما تدّعية قوّات الاحتلال بحقها. اعتقالها تم وفقًا لما يعرف بالاعتقال الاداري.
لقد انضمت خالدة إلى ثمانية نوّاب فلسطينيين تحتجزهم إسرائيل بشكل إداري، وبعضهم لمدد طويلة، من دون أن يواجهوا بتهم مكشوفة أو ببيّنات غير سرّية، ولذلك هم محرومون من حقهم في الدفاع عن أنفسهم بشكل سليم، ووفقًا لما تؤمنه جميع المواثيق الدولية والقوانين الوضعية في معظم دول العالم، خاصة تلك التي تحدثت عن وجوب تأمين محاكمات نزيهة لجميع المعتقلين وضمان حقوقهم في الدفاع السليم غير المنقوص. إضافة للثمانية نواب المعتقلين إدارياً يقبع في سجون الاحتلال خمسة نواب آخرون، قدمت في حقهم لوائح اتهام وحوكموا عليها أو ينتظرون محاكمتهم، في محاكم الاحتلال بأحكام متنوعة، أقدمهم النائب مروان البرغوثي وإلى جانبه أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين النائب أحمد سعدات، ومعهم رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب، الدكتور عزيز دويك.
خالدة جرار، وهي الأسيرة الوحيدة المسجونة إداريًا، انضمت إلى عشرين أسيرة فلسطينية، محكومات ويمضين عقوباتهن المتفاوتة في سجن «هشارون» الإسرائيلي. من المعروف أن إسرائيل قامت خلال سنوات احتلالها للضفة الغربية وغزة، باعتقال عشرات الآلاف من الفلسطينيين بشكل إداري، وبعض الأسرى الإداريين قضوا في سجونها سنوات، بدون أن يواجَهوا طيلة فترات اعتقالهم الطويلة، بتهمة أو دليل على قيامهم بأي مخالفة صغيرة كانت أم كبيرة. على الرغم من أن هناك إجماعًا على أن ما تقوم به إسرائيل ينافي جميع الشرائع الدولية ويشكل خرقًا لأبسط حقوق البشر، إلّا أن الأصوات، التي جاهرت بمعارضتها لتلك السياسة القمعية، كانت خجولة ونادرة، وحتى عندما أعلنها بعضهم، كأمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، أو مسؤولين أوروبيين آخرين، جاءت مواقفهم بشكل عابر وعرضي، ولم تترك أثرًا أو تأثيراً ملموسًا على ممارسات إسرائيل، التي ما زالت اليوم، تسجن في سجونها قرابة (450) فلسطينياً بدون تهم ومحاكمات نزيهة.
منذ اليوم الأول للاحتلال مارست اسرائيل سياسة الاعتقال الإداري بحق الفلسطينيين، لكنّها قامت بذلك، حتى اندلاع الانتفاضة الأولى، بشكل محدود جدًا، ثم جاءت الانتفاضة، فشرعت باعتقال الآلاف إداريًا وشهرياً، بدون أن يحاسبها أحد على هذه القفزة الخطيرة، بل كان صمت العالم من جهة، وانعدام الرفض الفلسطيني، من جهة أخرى، عاملين سهّلا على قوات الاحتلال المضي في ممارسة حملات اعتقاله الإدارية، التي لم تستثن لا شيخًا ولا شابًا ولا حدثاً.
من يتابع تفاصيل هذه المسألة لا يستطيع أن لا يشعر باستقواء إسرائيل واتكالها على الفُرقة الفلسطينية القائمة، التي أدت عمليًا إلى تلك التشظية الاجتماعية السياسية المؤلمة والمعاشة فعليًا في الشارع الفلسطيني بشكل عام، والأخطر منها، تلك السائدة بين أسرى الحرية داخل سجون الاحتلال، الذين باتوا يمارسون أنماط حياة تعتمد الانتماء الحركي أولًا، وتختلف عمّا ساد لعقود داخل الحركة الأسيرة، ساعة عاش أفرادها، مهما اختلفت انتماءاتهم الفصائلية، كجسم واحد مكين، ومارسوا حياة نضالية، الثابت فيها قضبان القهر، تواجهها إرادات فولاذية تؤمن بقضية، عناوينها: الحرية والاستقلال والدولة العتيدة.
لن يتحرّك العالم من أجل أسرى الحرية الفلسطينية، إذا لم يعطه الفلسطينيون كل المسببات والدواعي لهذا التحرك المرتجى؛ فعالم يرى الفلسطينيين معسكرات و»فصائل» يفقد «شهيّته»، الضعيفة أصلًا، للتضامن والتكافل، ومؤسسات حقوقية دولية تستشعر أن وراء الصمت الشعبي في فلسطين، إزاء مسألة الاعتقال الإداري، أكثر من إرهاق شعب يئن تحت أعباء الحصار والقمع والقهر ولقمة العيش، فالحقيقة أن هنالك موقفا يتنامى ويصرخ: «زيحها عن ظهري بسيطة»، وما دام الأسير «ليس منّا» ، فليقلع أشواكه بيديه أو بأيدي تنظيمه.
في السنوات الأخيرة بادر القائد العام لجيش الاحتلال بسنّ عدة تشريعات جديدة، أدت إلى إضافة أعباء جديدة على كاهل المواطنين؛ فقبل أعوام شرّعوا الأمر العسكري بشأن منع المتسللين، الذي يواجه بسببه آلاف الفلسطينيين خطر الترحيل عن بيوتهم، وبعده جاء التشريع الذي مكّن سلطات الاحتلال من اعتقال العشرات ممن أفرج عنهم في صفقات التبادل وسحب رخص حرياتهم وإعادتهم للأسر، وغير ذلك من التشريعات ومما يتفتق عنه ذهن محتل مجرب. اللافت في جميع هذه الحالات كانت ردة الفعل الفلسطينية، الرسمية والمؤسساتية والشعبية، فهذه كانت تبدأ بحراك من خلال عقد اجتماعات لقيادات الفصائل الوطنية والاسلامية، تتلوها لقاءات للمؤسسات العاملة في هذه الميادين، ويرافقها مهرجان خجول أو اعتصام روتيني لبعض الناشطين وذوي الأسرى، ثم تنتهي كل هذه الدورة من الاحتجاجات، كشريط سينمائي قصير ويعود بعده الجميع إلى ممارسة حياتهم «الطبيعية»، بينما تستمر حصادات الاحتلال بدورانها وشفراتها تصطاد الضحايا بينما يشاهد العالم ويشهد ونحن «تيتي تيتي مثل ما رحت مثل ما جيتي».
لقد استجلب اعتقال خالدة جرار بعضًا من قلق دولي واهتمام فلسطيني، لكن ما أخشاه هو أن يكون في حالتها ما كان في حالة من سبقها من ضحايا لسياسات الاحتلال الاسرائيلي، وذلك الصمت العالمي والعربي والفلسطيني المريب. وتبقى الحرية خالدة.
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس