محاولات حثيثة جرت من قبل الفلسطينيين لإنهاء الانقسام استهلكت كل هذه السنوات الطويلة واستهلكت معها دم ولحم المواطن الفلسطيني المشوي بنار الخلافات التي لا تنتهي بين الإخوة الألداء، وفي كل مرة يعودون لنقطة الصفر، إما لأنهم لا يريدون أو إما لأنهم لا يستطيعون، وأن العجز بلغ ذروته إلى الحد الذي أصبحت القضية برمتها مصابة بالكساح، إذ يعيش المجتمع الفلسطيني حالة من المراوحة ولم يعد الحديث سوى عن المصالحة التي أصبحت كالغول والعنقاء والخل الوفي بالرغم من أن كلمة مصالحة هي مصطلح قبلي عشائري ولكن يبدو أن هذا ما يليق بواقعنا.
فإذا كانت الفصائل عاجزة عن إنهاء الانقسام، عليها أن تطلب مساعدة الآخرين، وهم كثر، وكل أولئك الذين دخلوا على خط المصالحة فشلوا في كل العواصم بدءا من صنعاء انتهاء بالقاهرة، أما إذا كانوا لا يريدون فهذا شأن آخر، ولكن ليس من حقهم، فإن استمرار ما هو قائم هو اعتداء يومي على حق المواطن على الأقل في اختيار ممثليه في الموعد الذي حدده القانون، بل أن الأمر يمكن أن يوصف بأنه احتلال لإرادة المواطن بقوة السلاح في الضفة وغزة ومصادرتها، وهنا أيضاً قضية أخرى تتعلق بهذا المواطن الساكت عن أبسط حقوقه أو أنه تنازل عنها حين رأى ما يحدث في الإقليم من صراع دموي على السلطة ليكتفي بخسارته بلا دماء من شدة الخوف على أبنائه الذين يحترقون في الإقليم، وبعد أن جرب الدم الذي بدأت حفلته عندنا.
وفي ظل قبول الشارع بهذا الواقع، والقناعة ككنز لا يفنى للفصائل التي عجزت عن تقاسم السلطة ونجحت في تقسيم الأرض أي أنها ابتدعت شكلا مختلفا لتقاسم وتداول السلطة وما تبقى من الوطن راضية بنصيبها ازداد الأمر سوءا، ومع مرور الزمن تفاقمت الأزمة، وبوجود الاحتلال الذي يزيد من بلة طين الفلسطينيين إلى الحد الذي يصبح المشهد أكثر قتامة مما نتخيل، فلولا توقف حركة المجتمع والقضية برمتها لما أكترثنا بهذا الاقتسام وليكن الأمر على نمط الكوريتين الشمالية والجنوبية أو على نمط الألمانيتين الشرقية والغربية، لكن لأن الضفة لا تعيش بلا غزة ولأن غزة لن تتمكن من الاستمرار بدون الضفة أصبح إنهاء الانقسام ضرورة مجتمعية وإنسانية وسياسية ووطنية وكل شيء ودون ذلك فالانهيار هو الطريق الوحيد وقد بدأ ونراه بأعيننا.
ما هو قائم لم يعد مقبولاً، مثله مثل الشارع المتواطئ بالصمت، وبات من الضروري وضع حد للمسرحية الهزلية المتكررة بكلفتها العالية، فليس من حق الفصائل احتكار السلطة للأبد وعليها أن تقبل إذا ما اتفقت على بقاء السلطة، وظني أنها لن تقبل حتى بنقاش حلها في الضفة وغزة، لهذا عليها أن تدرك أن الحل الوحيد للخروج من الأزمة هو بإجراء الانتخابات ولنستفيد من التجربة الإسرائيلية حيث كلما تنازعت الأحزاب تذهب وتحتكم للجمهور صاحب السلطة، ولكن لأن لدينا استعصاء كبيرا يحول دون إجراء الانتخابات لذا ينبغي حله أولاً.
ولنناقش المسألة بهدوء، فقد توقفت الأزمة عند المعابر والموظفين في غزة، وحتى اللحظة لم يقدم أي من الجانبين أي مرونة في هذه الملفات بالرغم مما أشاعته زيارة رئيس الوزراء الأخيرة لغزة من أجواء إيجابية وتلك القضايا ليست مستعصية إلى الحد الذي يجعل الطلاق هو الحل الوحيد، إذن، بالإمكان عقد صفقة بضمانة أطراف إقليمية ودولية، عنوانها الموظفون والانتخابات، وربما يفتح هذا موضوع أدوات السلطة التنفيذية، فهي ليست أكثر من جهاز خدماتي مدني يمكن من خلاله استيعاب موظفي "حماس" المدنيين بمن فيهم الشرطة، ونظراً لتغيرات السنوات السابقة في غزة، كما قال رئيس الوزراء في زيارته الأخيرة عن موظفين للسلطة أحيلوا للمعاش وغيرهم هاجر وقد يوفر ذلك شواغر لغزة التي لم توظف السلطة فيها خلال السنوات الثماني الماضية.
أما الأجهزة العسكرية والأمنية، فهذه أصلاً بحاجة إلى نقاش أكبر على مستوى الوطن وهو ما يستدعي إعادة هيكلتها وفقاً لخصوصية الحالة الفلسطينية التي أتخمت نفسها بوظائف أمنية وعسكرية زائدة، بل إن هناك أجهزة من حق المواطن أن يسأل عن جدوى وجودها فماذا يعني "أمن وطني" بعشرات الآلاف وهذا في العالم صمم للحروب، وصراعنا الوحيد مع إسرائيل، ففي هذا الصراع ليس مطلوباً من "الأمن الوطني" لا في الضفة ولا الأمن الوطني الذي أنشأته "حماس" أن يشارك في ذلك، لكن يمكن التخفيف من ترهله وتحويله بعد الاندماج إلى جهاز حماية الحدود.
ثم ماذا يعني وجود أجهزة مثل الأمن الوقائي والأمن الداخلي، فما نريده فقط هو جهاز لمكافحة التجسس، وكلا الجهازين أنشئ بطابع حزبي ويضمن أبناء (فتح وحماس) وتجاوز في عمله تلك المهمة وقد لاحق كل منهما الخصوم السياسيين ومارس تخويف الناس وقمع أي حالة تعارض التنظيم الذي أنشأهما بل وشكل كل منهما رعباً للمواطن الفلسطيني الذي سيكون سعيداً بإلغائهما وتحويلهما إلى جهاز أمني، بحيث يعاد النظر في وظيفتهما وحصرها بالعمل ضد العملاء لا بالاستدعاءات حتى ضد مغردي "الفيسبوك".
فوجود جهاز للشرطة هو من يتابع المواطن المدني ومخالفاته التي يجب أن تحتكم للقانون، فكثير من اتهامات هذين الجهازين في السنوات الماضية خارج القوانين والقضاء، وباتهامات لها علاقة بمخالفة التنظيم السياسي والحريات التي كفلتها القوانين، فقد آن الأوان للقول إنهما عملا ضد القانون باستثناء النجاحات التي يحققانها في ملاحقة العملاء، لكن في القضايا الأخرى كان طابع العمل والسياسات حزبية بامتياز، ولأنهما كذلك لسنا مضطرين لبقائهما والإنفاق عليهما من الضرائب والمساعدات التي تصرف للشعب، وفي اقتراح آخر دمجهما وحصر صلاحياتهما بتحصين المجتمع من الاختراق أي "جهاز مكافحة التجسس" فقط دون السماح لهما بالاحتكاك بالمواطن.
نحن بحاجة إلى جهاز للمخابرات العامة مع التأكيد على وظيفته وهي جمع المعلومات من خارج الوطن دون التدخل في الشأن الداخلي، فالحصول على المعلومات مسألة مهمة بالنسبة للدول في صناعة القرار خاصة في عهد المعلومات وأهمية تبادلها حيث أصبحت تلك قوة لأي دولة وتؤمن لها حضوراً مهماً، لهذا يتطلب نشر كوادره في كل الدول ولا يحتاج هنا في الوطن أكثر من مبنى إداري بثلاثة طوابق لتلقي المعلومات وأرشفتها مع طواقم تحليلها، مستعيناً بخبراء ومتخصصين من أساتذة الجامعات ومستشارين لتقدير الموقف بناء على العلم والمعلومة لتوضع أمام القيادة السياسية لاتخاذ القرار السليم.
إن صفقة كهذه تتضمن الموظفين ومرسوم الانتخابات التي رفضت حركة حماس التوقيع على موعده خطياً حين تم تكليف السيد حسن خريشة تحصيله، هي صفقة عادلة تترك شأن الأجهزة الأمنية والعسكرية لمن يفوز بالانتخابات كي يعيد هيكلتها بما تتطلبه مصلحة المواطن أولاً، فقد مللنا أجهزة تعمل على المواطن، ومللنا أخبار الاستدعاءات اليومية على قضايا غير قانونية وتهميش جهاز الشرطة المكلف وحده إنقاذ القانون وإعطاء الصلاحيات لأجهزة حزبية أمنية أن تفعل ما تشاء خارج القانون إلى الدرجة التي أصبح فيها الحديث عن القانون مدعاة للسخرية وهو الناظم الوحيد لعلاقة المواطن بالسلطة بعيداً عن تعسف رغبات الأحزاب وقمعها.
الضرورة ملحة للخروج من هذا المأزق وإلا سيستمر الانهيار الذي ترعاه إسرائيل.. فقد تفككت دول وأقيمت دول وتغير وجه الإقليم ونحن لا زلنا نتحاور على المصالحة، أي عجز هذا..؟
أكرم عطا الله
12 نيسان 2015