لا يقل العاملون بصدقٍ وإخلاصٍ في مجال الاقتصاد الوطني درجةً عن الجيش المدافع عن الثغور، والحامي للبلد، والضامن لسلامة الشعب، والغيور على أبنائه، والمضحي من أجل ترابه، بل إنهم الجزء الأهم من أمن البلاد، وسلامة الوطن، وكرامة الشعب، فهم سياجٌ يحميه، وجدارٌ يقيه، وقوةٌ تدافع عنه.
إنهم الذين يسلحون الجيش، ويوفرون له الإمكانيات، ويهيئون له الفرص والسبل ليحسن من قدراته، ويزيد من كفاءته، ويتلقى المزيد من التدريبات المطلوبة، ليكون قادراً على القيام بواجباته، وذلك من خلال القدرات المالية التي يوفرها الاقتصاديون ورجال الأعمال، وغيرهم من الصناعيين والتجار والزراع والحرفيين والفنيين والكتاب والصحفيين والإعلاميين وأصحاب المهن الحرة، وكل عاملٍ يتجرد في عمله، ويتفانى في جهده، ويخلص في محرابه، ويساهم بما يستطيع بجهوده في إنعاش اقتصاد البلاد، وتشغيل اليد العاملة، وتوفير فرص عملٍ جديدةٍ، وتحريك عجلة الانتاج العامة، فهؤلاء بجهودهم شركاء مع الجيش في حماية البلاد، وفي الدفاع عن كرامته وحدوده وحقوقه.
اقتصاد الوطن القوي يحقق الاستقلال في القرار، والحرية في الرأي، ويحرر الأوطان من العبودية والارتهان، ويرحمهم من ذل الديون، وثقل القروض، وينقذهم من الخضوع للشروط الدولية، وقيود مؤسسات المال العالمية، ويخلصهم من دعوات تخفيض قيمة العملة الوطنية، ورفع الدعم عن سلع الفقراء وحاجات قليلي الدخل، والامتناع عن تقديم الخدمات الاجتماعية والضمان الصحي وحقوق الشيخوخة، والتوقف عن مجانية التعليم والنفقات العامة، وخصخصة مشاريع الدولة ومؤسساتها، والتوقف عن تشغيل المرافق العامة والمؤسسات الخيرية، في الوقت الذي يمكنهم من رسم سياساتهم الخاصة، وتبني واعتماد مواقفهم الوطنية والأخلاقية، التي تمليها عليها ضمائرهم وتحالفاتهم القومية والدينية.
انعاش الاقتصاد وتطويره، ورفع مستواه وتحسينه، والارتقاء به وتحصينه، مسؤوليةُ كلِ مواطنٍ، وواجبُ كلِ من انتسب إلى الدولة وعاش فيها واستفاد منها، واستظل بسيادتها، واحتمى بسلطانها، أياً كانت صفته ووظيفته، ودرجته ومهنته، قبل أن يكون مسؤولية الحكومة، التي يجب عليها أن تضع القوانين التي تيسر العمل، وتساعد على الانتاج، وتمكن كل قطاعات الشعب من المشاركة، وتخلق حالةً تنافسية بينهم، وتحول دون ركود الأسواق، وانهيار الأسعار، وجمود رأس المال، وتراكمه في أيدي فئةٍ قليلة من الناس، بل يجب عليها أن تحمي صغار التجار وأصحاب المهن الحرة والأعمال البسيطة والحرف اليدوية، قبل أن تهتم بكبار التجار ورجال الأعمال، فلا تجعل القوانين في خدمتهم، ولا تسخر قدراتها لمساعدتهم، ولا تساندهم في جشعهم، ولا تقف معهم في احتكارهم، ولا تؤيدهم في استغلالهم.
الدولة مسؤولة قبل المواطنين عن محاربة التهريب والاتجار غير المشروع، والعمل بعيداً عن عيون الرقابة وأجهزة الدولة المسؤولة، إذ أن التهريب هو أخطر ما يمس اقتصاد البلاد ويعرضه للخطر، ولكن الدولة مسؤولة عنه، وربما تكون سبباً فيه، عندما لا توجد للشعب البدائل، ولا تيسر له التجارة فيما يحتاج، وتحرمه مما يلزمه، أو تحاول أن ترهق العاملين فيه بضرائب عالية، ورسومٍ مرتفعة، بغية تغطية عجزها، أو ستر فشلها.
أما الطامة الكبرى والجريمة العظمى فهي عندما يقوم الأمناء على الدولة، والمسؤولون عنها، وأعضاء حكومتها، ورؤساء أجهزتها الأمنية، بعمليات التهريب بأنفسهم ولصالحهم، عندما يتقاسمون خيرات البلاد ومقدراتها، ويتعاقدون فيما بينهم على مساعدة بعضهم، والتغطية على نشاطهم الاقتصادي، فيسرقون من الأوطان ما يستطيعون، ويهربون ما يقدرون، سواء خارج البلاد مما هو حق للدولة والمواطن، كالخيرات الطبيعية ومنها النفط والذهب والآثار وغيرها، أو يهربون إلى البلاد سلعاً ومنتجاتٍ بعيداً عن القانون، وخارج إطار السلطة، دون دفعٍ للرسوم المتوجبة، أو الجمارك المحددة، وبذا يتحكمون في الأسعار، ويضعون الشروط التي تخدمهم وتمكنهم من تحقيق أعلى استفادة، وأكبر عائدٍ.
أما المواطن الذي يطالب الدولة بضمان حقوقه، والسهر على راحته، وتوفير احتياجاته، والوقوف إلى جانبه في مرضه وشيخوخته، وعدم التخلي عنه عند حاجته وعوزه، والمساهمة معه في توفير البيت والمسكن، ودعم التعليم وإيجاد وسائل الراحة وسبل الترفيه والتسلية، فإن عليه أن يساهم في تحصين اقتصاد بلاده، ورفع أعمدته وإعلاء أسواره، فلا يتأخر عن عمل، ولا يتعالى عن وظيفة، ولا يقعد في بيته، ولا يقبل أن يكون عاطلاً وعالة، يحتاج إلى من يتبناه ويكفله، ويرعاه وينفق عليه، دون أن يبذل جهداً أو يعرق في عمل.
بل إن عليه أن يكد ويجتهد، ويعمل ويشتغل، ويتعب ويعرق، ويقبل بعمله ويحبه، ويعطيه أفضل أوقاته، ويقدمه على غيره، وأن يكون مخلصاً فيه فلا يغش ولا يخدع، ولا يغدر ولا يحنث، بل يعمل بأقصى طاقته، ويبذل غاية جهده، ويحاول أن يكون مبدعاً في عمله، ومتقناً في إنتاجه، ودقيقاً في مواعيده، ليكون عمله مميزاً، وانتاجه مرغوباً ومنافساً، وعائده جيداً ومجزلاً.
ينبغي على العاملين في مؤسسات الدولة ومرافقها ألا يكونوا عالةً عليها، ومجرد اسمٍ في سجلاتها، فلا يعملون شيئاً، ولا يبذلون جهداً، ولا يحققون للدولة ربحاً، ولا يكسبونها نفعاً، بل يغيبون عن أعمالهم، ويقصرون في واجباتهم، ولا يأتون إلى مراكز عملهم إلا لتسلم رواتبهم، أو للاستفادة من مناصبهم، وتسخير ما بين أيديهم لمصالحهم.
وكما أن عليه أن يؤدي حق الدولة من ضرائب ورسومٍ، لتردها على الوطن والمواطنين خدماتٍ ومنافع، فلا يزور في الفواتير، ولا يبدل في المداخيل، ولا يخفي حقيقة العوائد وخالص الأرباح، فإن على الدولة أن تكون عادلة ومنصفة، وعاقلة وحكيمة، فلا ترهق العاملين فتدفعهم إلى إغلاق مرافقهم، أو الهروب من البلاد والتخلص من جابي الضرائب وسارقي الحقوق، بل لا بد من العدالة في الضريبة، والإنسانية في فرضها، والرحمة في جبايتها، والمساواة في تشريعها، والحكمة في تصنيفها، فلا يتساوى فيها الفقراء مع الأغنياء، ولا المعدمون مع القادرين، ولا قليلي الدخل مع الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة والتجارة الواسعة.
الاقتصاد الوطني الحر والقوي والمنتعش، القائم على أسس العدالة وقواعد المساواة، الذي يشارك فيه كل أبناء الوطن بصدقٍ وإخلاص، وتجردٍ تفاني، هو جهادٌ مقدس، يثاب فاعله ويكرم، ويحاسب تاركه ويعاقب، لأنه الكرامة والعزة، والعفة والطهارة، ولأنه القرار الحر الشريف، إذ أن من امتلك خبزه ملك قراره، ومن فقد قوته استعبده غيره.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي