إنه موسى، نبياً أو عبداً، رسولاً أو قائداً، فلسطينيٌ أبداً، دائماً على قدرٍ يأتي، وبالقدر يمضي، مؤمناً بكلمات الله ووحيه، ينفذ وعد الرب، ووصية الإله، ورسالة السماء، ويحمل الأمانة ويمضي، لا يكل ولا يمل، ولا يتعب قلبه ولا تهن عزائمه، ولا تضعف قدرته، ولا تهد السنون من عزمه، ولا توهي الأيام من مضائه، قوياً ينهض، ومارداً يتقدم، ومؤمناً يسير، كل شئٍ عنده يسير، إذ لا يعرف المستحيل، ولا يؤمن بالصعاب، ولا يحب إلا التحديات، التي عرفته دائماً يسير فيها كسيرِ السكينِ في الزبد الطري، لا تقف ولا تتعثر، ولا يمتنع عليها صعبٌ، ولا تتعذر أمامها مهمة، فإنه للصعابِ أهلٌ، وللغربة رفيقٌ، وللمجدِ صديقٌ، فما عرفته يوماً يائساً ولا قانطاً، ولا رأيته متعباً ولا هائماً، ولا بائساً ولا حائراً، يعرف قصده، ويدرك غايته، ويتطلع إلى هدفه، ويرنو بعينيه إلى موطئ قدمه، فلا تزلُ به قدمٌ، ولا تتعثر به خطى، واثقاً يمشي، ومتوكلاً على الله يمضي، فهو حسبه، يحفظه ويكلأه، ويحميه ويأخذ بناصيته إلى الحق، ويحقق على يديه الصدق والعدل.
اليوم نحمد الله على سلامة أبي عمر موسى، فقد منَّ الله عليه برحمته، ونظر إليه بعين رعايته، فتكللت عمليته بالنجاح، وعاد قلبه ينبض بالأمل والحياة، وكأن ما مضى من العمر ما فت في عضده، ولا أرخى بظلاله على قلبه، فعاد من جديدٍ بأملٍ يتجدد، وعزمٍ لا يتردد، وإيمانٍ بقضيته لا يتزعزع، فقد كان في فراشه يتابع، ومن غرفة الانعاش إلى شعبه وأمته يكتب، فصفحته لم تتوقف، وكلماته لم تتأخر، رغم أن المرض قاسٍ، والمحنة شديدة، وأزمة القلب تخيف كل من نبض قلبه بالحياة، فهذه هي سنة الحياة وطبائع البشر.
على قدرٍ جئتَ يا موسى، وبقدرٍ من الله تأتي دائماً، تحمل الأعباء الثقال، وتتصدى للمهمات العضال، وتتحدى الصعاب والمحال، فكنت يوماً وقد ادلهمت الخطوب، وضاقت الدنيا على الحركة في فلسطين، وقد زج العدو بألافٍ من أبنائها في السجون والمعتقلات، فكنتَ أنت الرجل الذي تصدر للمحنة، ووقف أمامها ثابتاً لا يتزعزع، فأعدتَ بناء الحركة من على أرض غزة، ونسجت خيوطها من جديدٍ، وقد بعثر العدو أصوافها، وقطع أطرافها، ولكن الله الذي يرسل عباده دوماً قد أرسلك على قدرٍ لتكون البداية من جديد، أقوى مما سبقها، وأشد عزماً مما مضى، تواجه محنة الاعتقال، ومؤامرة الشطب والاستئصال.
كما في الليلة الظلماء يفتقد البدرُ، فإن أهلك وشعباً دوماً يفتقدونك عند الملمات والأزمات، وفي المصائب والنكبات، لكنهم يجدونك إليها قد سبقت، وقبلهم إليها قد فزعت، مسرعاً مهرولاً، لا تتردد ولا تخاف، فرسولك محمدٌ صلى الله عليه وسلم قائدك ونبيك، الذي كان قبلك يسبق القوم عند كل صيحةٍ، ويعود إليهم مطمئناً وقد رد عنهم الفزع، وصد عنهم الخطر، "لا تراعوا".
كذلك أنت يا أبا عمر، أراك عند النكبات تتقدم، وفي مواجهة الأزمات تتصدر، تنسى ذاتك، وتذكر قضيتك، وتحمل عمن غاب من اخوانك المسؤولية، وتقوم لها كالطود العظيم شامخاً، وتستدعي لها كل قادرٍ ومعين، ونافعٍ ومفيد، لا تتقدم لغايةٍ، ولا تسعى لمصلحةٍ، ولا تهمك المناصب، ولا تغريك المراكز، وقد كنتَ تصنعها وتمنحها، وتعطيها لغيرك ولا تسألها لنفسك، وأنت لها قدير، وبها جدير.
كنتَ أول من استقرت أقدامه في سوريا على الأرض، بعد أن طردت الأردن قيادة الحركة منها، وكنتَ أحد الذين أخرجوا منها، فجعلتَ من دمشق للحركة موطناً، ولها قاعدة وملجأً، وأرسيت فيها قواعد عملٍ عظيمٍ، وبناءٍ شامخٍ مكين، كان له في فلسطين ولدى الحركة أثرٌ باقٍ، ساهم كثيراً في رفعة الحركة، ورفع عمادها، وازدياد قدراتها، وهيأت الفرصة لغيرك أن يأتي إليها من بعدك، وينصب خيامه فيها، ويعلي رايته على أرضها، ويكونُ له فيها شأنٌ عظيمٌ ومقامٌ رفيع.
كنتَ يوماً يا أبا عمر الأولُ وما زلت أولُ، فما كنتَ تفتر ولا تهدأ، ولا تملُ ولا تتعب، ولا يشكو قلبك ولا يتعب السكرُ جسدَك، تتنقل في كل الدنيا بحثاً عما ينفع فلسطين وأهلها، ويعين شعبها ويخدم قضيتها، ويخفف عنهم لأواء المعاناة، وقسوة الاحتلال، وقد شرفتُ بالعمل معك سنين طويلة، معك وإلى جانبك، فما عرفتك إلا يقظاً منتبهاً، صادقاً مخلصاً، عاملاً مجداً، تدفع من جيبك، وتمول حركتك من حر مالك، ولا تبخل على اخوانك مما قد كسبته يداك، تصنع المؤسسات كبذورٍ في الأرض وتمضي، وترسم مشاريع للمستقبل بنظرة عالمٍ ورؤية بصير، حتى غدت هذه الحركة شجرةً أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، وارفة الظلال عظيمة الثمار، يلجأ إليها كل صادقٍ، ويخاف عليها كلُ محب.
أيها الفارس عُد إلى جوادك، وامتطي صهوته من جديد، واحمل سيفك وقاتل، وانبري لعدوك وبارز، فحصانك لم يعقر، وسيفك لم يثلم، ورهانك لم يسقط، وأيامك لم تنتهِ، فالمهام أمامك تنتظر، وماضيك الأولُ يستدعيك فلا تتأخر، فعد إلى خيلك أيها الفارسُ الهمام وإلى رجالك الصِيد، فإن غدك ينتظر، وشعبك فيك يأمل، وأهلك منك يتوقعون الكثير، فأنت من يسعى للمصالحة، ويعمل من أجلها، وأنت من يبحث عن نورٍ يبدد ظلام الوطن، ويمزق صمته البهيم، ويحرك سكونه الطويل، فأنت ابن مخيمٍ وتعرف أهله، وتسكن دوره، وتعيش همومه، وتعرف أن الغد يقيناً سيكون لأهله ومع شعبه.
عُد يا أبا عمر حيثُ كنتَ، وَقُدْ السفينة وكن قبطانها، فالأمواج عالية، والرياح هوج، والأنواء شديدة، والعواصف عاتية، والتحديات كبيرة، ومقامك محفوظ، ومكانك موجود، وعنوانك باقٍ كما كان، ما ران عليه الزمان، ولا تركت الأيام على صفحاته غباراً، ولا نسيت التسعينيات أيامك، ولا يغمطُ المخلصون عطاءك، فالمهام الصعاب تنتظرك، وقلبك النابض بالحياة يستدعيك من جديد، أن تسرع الخطى، وتمد القامة، وترفع الراية، وتسير بها قدماً إلى الأمام، فلا تتردد ولا تزهد، ولا تتراجع ولا تتعفف، فهذه أمانةٌ أنت حاملها، وهذه رايةٌ أنت رافعها، فلا يأخذنها منك اليوم أحدٌ، ولا يسبقنك إليها آخرٌ، فهي ما كانت إلا لك، ولا حُفظت إلا لأجلك، وقد آن أوانك وحل زمانك، واستحقت عودتك، ووجبت رجعتك.
حمداً لله على سلامتك أبا عمر، ومدَّ الله في عمرك، وحفظك من كل سوءٍ ومكروه، وجعله شفاءً لا يغادر سقماً، ولا يترك ألماً، وأراك من أهلك حباً ووفاءً، وعرفاناً وتقديراً، وقدَّمك شعبك حيثُ ينبغي لك أن تُقدمَ، ورفعك حيثُ أراد الله لك الرفعة والمكانة.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي