إتسم موقف الصين تجاه الازمة السورية الحالية آبان عهد الثورة بالاختلاف مع موقف الولايات المتحدة والدول العربية تجاهها. وهو تباين في المواقف ليس جديد، فطالما تناقضت التوجهات السياسية للصين مع مثيلاتها الامريكية، في ظل سياسة خارجية صينية براجماتية تحكمها تقاطعات الايديولوجيا بالمصالح. إلا أن الجديد في موقف الصين تجاه الازمة السورية أنه تعدى حدود الاختلاف الموقفي المعهود مع سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الاوسط ووصل حد التصادم والمواجهة السياسية في سابقة تعد الاولى من نوعها في هذه المنطقة. ويساهم تدخل الصين في واقع توازنات معادلة القوى في الشرق الاوسط إلى جانب كل من روسيا وإيران في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، في إحداث تطور جديد على تلك المعادلة، خصوصاً في ظل تصاعد أزمات المنطقة حداً وصل إلى نزاعات مسلحة تعكس واقع تلك التوازنات.
إستعملت الصين الفيتو أربعة مرات لاحباط صدور قرارات عن مجلس الامن بدعم غربي، إثنين منها دعت إلى تنحي الرئيس السوري (بشار الاسد) وثالث طالب بتطبيق الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة على النظام السوري، الذي ينص على فرض عقوبات، والرابع سعي إلى إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية. فعارضت الصين أي تدخّل عسكري في سوريا، حتى وإن جاء لمحاربة التنظيمات الإرهابية فيها. جاء ذلك الاستخدام الصيني المتكرر لحق النقض في مجلس الامن، على الرغم من أن الصين تعتبر الدولة التي لم تستخدم هذا الحق إلا نادراً من بين دوله الدائمة الخمس، كما أنها لم تلجأ إلى إستخدامه لتقويض إصدار قرارين مشابهين وجها ضد النظام الليبي في عهد الرئيس السابق (معمر القذافي) في عهد الثورة الليبية، رغم إعتراضها على صدورهما. فهل يعد الموقف الصيني المتقدم من الازمة السورية صياغة جديدة لدورها في منطقة الشرق الاوسط، أم أنه مجرد موقف يتعلق بمصالح الصين المباشرة في سوريا؟
تقوم السياسة الخارجية الصينية على عدد من المحددات التي تساعد على إستشراف توجهاتها تجاه قضايا دولية محددة. وهناك علاقة وثيقة تربط بين سياسة الصين الخارجية وبين فكرها السياسي القائم على أساس رؤيتها لمكانتها وإيمانها بعقيدتها وإستفادتها من تجربتها التاريخيه. فتلعب إعتبارات الإيديولوجيا وتحقيق المصالح دوراً رئيسياً في تحديد محددات السياسة الخارجية الصينية، في سياسة توصف عموماً بتوجهها البراغماتي. ورغم التناقض بين إعتبارات الايديولوجيا والمصالح إستطاعت الصين الموازنة بينها في سياستها الخارجية في تناغم غريب عكس الطبيعة المميزة للهوية الصينية. ومن الصعب إغفال الدور الذي يلعبه وصول الصين كأحد الاقطاب المؤثرة في المنظومة الكونية كمحدد رئيس في رسم سياستها الخارجية.
ويقوم دعم الصين لسوريا بناء على معطيات أيديولوجية، بالاضافة إلى إعتبارات أخرى. فتحثّ العقيدة الكونفوشيوسية التي تعتبر مرتكز رئيس في الفكر السياسي الصيني على التآخي والسلام وفعل الخير، الامر الذي يفسر سيادة طابع التعامل بالقوة الناعمة بدلاً من الصلبة في سياسة الصين الخارجية عموماً. كما تعتمد الصين في سياستها الخارجية على المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، التي أقرّها الحزب الشيوعي الصيني منذ نشأة الجمهورية الصينية الشعبية عام 1949، والتي تتقاطع تقاطع تام مع تلك المبادئ الكنفوشية.
فأيدت الصين الموقف العربي عموماً، وشجبت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأدانت الاعتداء الإسرائيلي على الدول العربية في حرب عام 1967، ودعمت مصر في حرب عام 1973. وبقيت الصين تقف إلى جانب الحقوق العربية المشروعة المتمثلة في إسترداد الجولان وإقامة الدولة الفلسطينية. وتحدت الصين قرار حظر شراء الأسلحة الذي فرضته الولايات المتحدة على الدول العربية وخاصة سوريا في أواسط العقد التاسع من القرن الماضي، وكذلك الحصار الذي فرض على سوريا بعد إتهامها بدعم الإرهاب. وترى الصين أن الثورة السورية تحوّلت إلى نزاع مسلّح بين الدولة ومسلّحين معارضين بعضهم متطرف، فرفضت التدخل الاجنبي في سوريا، وإستخدمت الفيتو أربعة مرات في سبيل ذلك، إنطلاقاً من إيمانها بضرورة إحترام مبدأ سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والذي يعد أحد المبادئ الخمسة الثابتة التي تؤمن بها الصين في تحقيق سياستها الخارجية.
ورغم التناقض بين المحدد الايديولوجي ومحدد المصلحة في رسم السياسة الخارجية، تميزت سياسة الصين تجاه سوريا بتكامل محددي الايديولوجيا والمصلحة في تناسق واضح. فإهتمت الصين بسوريا منذ خمسينيات القرن الماضي من منطلق مصالح جيوسياسية وإقتصادية، ورغم تجاذب العلاقات الصينية السورية ما بين المد والجزر خلال العقود الستة الماضية، لم تقدم الصين على خسارة علاقاتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية مع سوريا حتى في أحلك الازمات. فلعبت الصين في الغالب دور الحليف المتعاون والمساند للدولة السورية.
وتنطلق مصلحة الصين الرئيسية مع سوريا من منطلق إستراتيجي. فتعتبر سوريا نقطة إلتقاء لثلاث قارات عبر عدد من الممرات البرّية والبحرية والجوية، وتشكل خط الدفاع الأول عن مصالح الصين في آسيا الوسطى والقوقاز، وتعتبر الجسر الموصل للبترول لها من روسيا الاتحادية. وسعت الصين للاحتفاظ بنفوذ لها في منطقة الشرق الاوسط من خلال سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي، في ظل سيطرة غربية بقيادة الولايات المتحدة على غالبية دول المنطقة الاخرى، وبقاء سوريا نقطة الممانعة الوحيدة طوال تلك السنوات. فإنهيار النظام السوري الحالي من شأنه أن يفقد الصين حليفها الوحيد المستعصي على الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الاوسط، والذي يخلق وجوده نوعاً من التوازن فيها. كما أن من شأن إنهيار النظام السوري أن يؤثر على مكانة إيران في منطقة الشرق الاوسط، الحليف الاول للنظام السوري، والموزان الاستراتيجي في المنطقة من الهيمنة الغربية. ومن نفس المنطلق حصدت سوريا دعم روسيا، فالتقت المصالح الصينية الروسية الايرانية في دعم النظام السوري.
وتمتلك الصين مصالح إقتصادية كبيرة مع كل من روسيا وإيران، فكليهما يمثل شريك إقتصادي مهم لها، وللحلفاء الثلاثة مصالح إقتصادية في منطقة الشرق الاوسط الغنية بالنفط، وتغيير معادلة القوى في المنطقة لصالح النفوذ الغربي من شأنه التأثير على تلك المصالح. كما أن الشراكة الاقتصادية بين الصين وسوريا تحمل فرص تطور ممكنه، خصوصاً من خلال النظرية الاقتصادية التي طرحها الرئيس السوري (بشار الأسد) عام 2002، على أساس أن تصبح سوريا الرابط الأساسي لخمس بحار، والتي تتوافق مع مطامع الصين في بناء حزام إقتصادي مبني على مفهوم طريق حرير جديد، وشكل طريق الحرير تاريخياً الطريق التجاري الذي ربط بلاد الصين ببلاد العرب عبر سوريا. ومن الملاحظ أنه كلما تصاعدت مكانة الصين الدولية، كلما تصاعد إهتمام الصين بسوريا، كنقطة إرتكاز لها في المنطقة من منطلق إستراتيجي.
بعد أن باتت الصين أحد الاقطاب الصاعدة عالمياً، وتوجهت الولايات المتحدة صراحة للتصدي للنفوذها، باعتبارها منافس رئيس للولايات المتحدة، شكلت التطورات الدولية خصوصاً تلك الحاصلة في الشرق الاوسط، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما لحقها بعد إنطلاق حقبة الثورات العربية إلى فرض التدخل الصيني في معادلة الصراع في تلك المنطقة. ورغم أن تصاعد مظاهر التوتر بين الولايات المتحدة والصين خلال الفترة الاخيرة في منطقة نفوذ الصين في أسيا ليس جديداً، إلا أن الصين لا تستطيع أن تفصل ذلك التوتر عن إعلان الولايات المتحدة بتحويل مناطق إهتمامها إلى محور النفوذ الصيني المباشر في أسيا والمحيط الهادئ خلال السنوات الاخيرة.
ولا تخرج تلك التحولات الامنية الخطيرة في الشرق الاوسط عن التدخلات والترتيبات الامريكية فيها والتي تعد منطقة لنفوذها منذ ما يقرب من قرن من الزمان، خصوصاً وأن إنهيار تلك المنطقة أمنياً بات يشكل خطورة محتملة على الامن القومي الصيني مباشرة، وليس فقط على مصالحها الاقتصادية. وتعبر الصين عن قلقها صراحة من محاولات الولايات المتحدة التدخّل في الشأن الصيني، ومحاولتها توظيف وجود العديد من الأقليات الصينية المسلحة داخل في الصين، والتي يحارب بعض أفرادها إلى جانب المعارضة في سوريا لتنفيذ أعمال إرهابية في الداخل الصيني.
وتعتبر الصين أن محاولات الولايات المتحدة لزعزعة إستقرار المنطقة العربية يأتي لسدّ الطريق أمام إمدادات النفط التي تصّل إليها، خصوصاً وأن ذلك جاء بعد تراجع إهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط وسعيها للخروج منها. ومن الممكن إعتبار أن الجبهة السورية أصبحت اليوم تشكل نقطة توازن هامة للنظام الصيني في منطقة الشرق الاوسط، ولا يمكن للصين التخلي عنها بسهولة، وتعكس واقع الصراع عموماً بين الولايات المتحدة والصين، إلا انه من المستبعد أن تتدخل الصين عسكرياً في الازمة الصينية، في ظل سيادة طابع التعامل بالقوة الناعمة في سياستها الخارجية.
بقلم: د. سنية الحسيني