الرد الإسرائيلي على الاتفاق النووي لم يكن مفاجئا، حكومة نتنياهو بدت عاجزة عن الفعل أمام واقع بدأ يتكرس على المستويين الإقليمي والدولي. تجد إسرائيل نفسها، وهي لا تزال القوة العسكرية الأكبر في المنطقة والوحيدة التي تملك السلاح النووي، عاجزة عن المبادرة لسببين:
الأول هو عدم القدرة و/ أو الرغبة الأمريكية في خوض حروب جديدة في المنطقة بعد حربين فاشلتين في أفغانستان والعراق.
والثاني هو ان الدور العسكري المتضخم الذي نجحت إسرائيل في نسجه حول نفسها في حرب الأيام الستة، حزيران/ يونيو عام 1967، حيث استطاع الجيش الإسرائيلي إحداث انجاز خرافي في سياق الحرب الباردة، حين دمر الحليف العربي للاتحاد السوفياتي بسهولة غرائبية، بدأ يتراجع ببطء شديد، على مدى العقود الأربعة الماضية.
حرب تشرين/ أكتوبر 1973 هددت بقلب الأدوار فهرعت الولايات المتحدة لإنقاذ حليفتها، واجتياح لبنان 1982 برهن ان القوة الإسرائيلية رغم جبروتها محدودة ولا تستطيع ترجمة انتصاراتها في السياسة. ومع نهاية الحرب الباردة بدأت إسرائيل تفقد دورها، وكان المنعطف هو حرب الخليج، حيث كان على الدولة العبرية ان لا تحرك ساكنا. ومع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بدت إسرائيل في حاجة إلى إنقاذ سياسي وتوالت الحروب الفاشلة من لبنان إلى غزة، حيث صار الجيش الإسرائيلي أشبه بفيل أعمى، يضرب ويحطّم ولكن من دون تحقيق أي انتصار. وحين بدأ الملف النووي الإيراني يتخذ حجم التحدي، أعلنت إسرائيل نيتها تدمير المشروع الإيراني، لكنها كانت تعرف انها عاجزة عن القيام بذلك بمفردها، وان لا سبيل إلى ذلك إلا عبر توريط الولايات المتحدة في حرب جديدة.
خلال أربعة عقود انتقلت إسرائيل من دور القوة الاستراتيجية الرديفة للقوة الأمريكية التي تنوب عنها في المهمات الصعبة، إلى قوة مكبّلة غير قادرة على الدفاع عن صورتها في مرآة نفسها.
الأدوار انقلبت، وهذا ما تحاول إسرائيل ايقاف مفاعيله، فهي اليوم على عتبة الانتقال من حليف مقرر إلى حليف تابع، ولم يكن في حساب انتفاخ القوة الإسرائيلية وعظامية قادتها ان تفشل في دفع أمريكا إلى حرب جديدة، بل ان تعامل كما يعامل غيرها من الدول التابعة.
هذا هو جوهر الخوف الإسرائيلي، يجب ان تكون الدولة العبرية هي الدولة الوحيدة في المنطقة ولا يجاورها سوى دول فاشلة ومدمرة.
توتر العلاقات بين إدارة أوباما وإسرائيل أشار إلى حقيقة أن إسرائيل هي جزء من المركّب السياسي الداخلي الأمريكي، وهذا ما عبّرت عنه خطبة نتنياهو في الكونغرس بصفتها جزءا من الصراع الداخلي الأمريكي بين المحافظين والحزب الديموقراطي.
السؤال هو حول حجم تأثير هذا الجزء، هل هو جزء مقرر أم هو جزء تابع، على الرغم من انه يتمتع بوضع خاص في هذا السياق.
أعلنت لوزان ما كان مضمراً منذ حرب الخليج: لم تعد إسرائيل قادرة على شن الحروب الكبيرة بمفردها، وعليها أن تتأقلم مع هذا الواقع.
كيف سيجري صرف هذا الضجيج الإسرائيلي حول الاتفاق النووي؟
الخيار الإسرائيلي الوحيد المتاح هو في فلسطين، عبر مزيد من القمع الوحشي، من رام الله إلى غزة إلى الجليل إلى المثلث إلى النقب. هنا ستخوض إسرائيل معركتها الأخيرة قبل أن تتحول إلى مجرد دولة عادية مصيرها سيكون مرتبطا بالمنطقة التي اختار قادة الحركة الصهيونية إقامة دولتهم فيها كجزء من المشروع الكولونيالي الأوروبي، عبر رفضهم الواعي والمنظم الانتماء إلى هذه المنطقة.
لن تشن إسرائيل حربا على إيران، ولم تعد في موقع من يقرر حربا إقليمية، وهي تواجه منطقة غامضة الملامح، وتحولات استراتيجية كبرى، لذا فإن «فشة خلقها» ستكون في فلسطين، وهي تعلم انها حتى هنا في سباق مع الوقت، ومع تعب العالم من تحمل عنصريتها التي باتت مكشوفة وعارية.
أغلب الظن أن إسرائيل في المرحلة الجديدة سوف تشن حربها الخاصة من دون السياقات السابقة التي غطت عنصريتها، ومن دون أي غطاء «أخلاقي» سمح لها في الماضي ان تبرر احتلالها بحجج شتى.
لذا على الفلسطينيين أن يستعدوا لمعركة شرسة، قد تكون أقسى معاركهم. فالفلسطينيون اليوم يعانون عزلة عربية لا سابق لها، كما أن الموقف الدولي، الذي يعارض السياسات الإسرائيلية ليس سوى موقف جزئي، كما أن مشاريع القرارات التي يجري تداولها في أروقة مجلس الأمن، وخصوصا مشروع القرار الفرنسي، ليست سوى محاولات أخيرة من أجل انقاذ إسرائيل من نفسها.
المعركة سوف تجري في فلسطين، كل فلسطين، من الجليل والمثلث إلى الأغوار، ومن الضفة إلى غزة. وبصرف النظر عن شكل الحكومة الإسرائيلية المقبلة، فإن التشريعات العنصرية من أجل طحن فلسطينيي الداخل سوف تتوالى، كما أن الضغوط على السلطة الفلسطينية لن تتوقف من أجل تحويل الحكم الذاتي إلى باندوستانات لا خيار لها، أما غزة فستبقى في الحصار وسيتم تحويلها إلى أكبر غيتو في العالم.
القائمة الفلسطينية المشتركة التي حصدت ثلاثة عشر مقعدا في الكنيست، شكلت مؤشرا على وعي فلسطيني بضرورة مواجهة الوحش العنصري الإسرائيلي، لكن ردة فعل اليمين الإسرائيلي خلال يوم الانتخابات، تشير إلى ان فلسطينيي داخل الداخل سوف يتعرضون لمواجهات صعبة من أجل كسر إرادتهم، وتحطيم وحدتهم.
المعركة المقبلة ستكون أقسى المعارك، وهي معركة صمود أولا، وهو صمود سيصنعه الناس بصرف النظر عن قيادات ترهلت، وقوى سياسية تم تدجينها، وأفق عربي مقفل.
الياس خوري