أنا مواطن من غزة، أكنّ لها الحب الكبير، وحين كنت أتلمس أولى خطواتي في الوطن، تعرفنا على أبجدية الوطن والاحتلال، وكنا نسمع دائما أن بلادنا من أجمل بلاد العالم، ولهذا تم استعمارها، وحين دخلنا في الانتفاضة الأولى، كنت لازلت في الثاني الثانوي، يومها اقتحم جيش الاحتلال مدرستنا الثانوية التي تجاور مركز الجيش، ووقف مدرس اللغة الانجليزية المربي الفاضل على النجار يقارع الجنود ويمنعهم من اعتقال أو ضرب أي من الطلاب، ولكن الاحتلال اعتبروا الجميع مدانون بمقاومة الاحتلال، لم يكن يومها انقسام، كان الحجر في أيدي الجميع يقذف به وجود الاحتلال فوق أرضنا، وتم تهديدنا بالقتل، ولازلت أتذكر ذاك الجندي الذي رفع سلاحه فوق رؤوسنا، وتوعد الجميع، وتم إغلاق المدرسة، وطردنا منها، ولا أتذكر أن الدوام انتظم بعد ذلك كالمعتاد، فلقد أخذتنا الانتفاضة المباركة إلى فعالياتها المستمرة.
في أيام الحصار على السكان وفرض منع التجول لأسابيع، تقدم أهلنا في مدن فلسطين في 48 وأتذكر أنهم كانوا يجوبون الشوارع يقدمون التبرعات العينية ويظهرون حقيقة التكافل بين أبناء الجسد الواحد و الوطن الواحد والحب الوطني والمشاركة بين الجميع، يومها تعززت داخلنا ثقافة الوطن، وعرفنا أن لنا سندا قويا، يدعمنا ليستمر صمودنا ولازالت تلك الصورة الجميلة مرسومة فينا ولم تستطع تفاصيل الجغرافيا التي أنهكتنا أن تأخذ ذاك الحيز الذي سيرافقنا حتى الممات .
صباحنا اليوم نتمنى أن نمسح منه ذاكرة وجع مستمرة، ونحن لا نعرف من أين نبدأ وكلما بدأنا في نثر بذور التفاؤل في أرض الانقسام، وانتظرنا سويقة الفرج وجذرية الأمل، تذبل البادرة، ويتحول مساء الوطن إلى جرح، والمتضرر هو المواطن الذي ينتظر مستقبلاُ أفضل.
عذب ذاك التفاؤل حين تعزف النوايا في حضور الفعل الصادق، وجميل ذاك النجاح حين ترسم خارطة الثقة والطمأنينة .. ولكن في الحقيقة أن كل ذلك أوهام الحالمين في مدن غاب فيها الفرح وابتعدت عنا معالم الطريق لتأخذنا إلى المجهول، وأصبحنا نتفحص وجوهنا في المرايا ونكتشف أننا غرباء، ولا نملك أحيانا إلا كسر المرايا لكي لا نتوغل أكثر في تجاعيد القهر والخذلان الذي لا ينتهي، وستبقى غزة عشقنا الذي لا ينتهي وفجر قريب، وسنذكر دائما أن الوطن يتسع للجميع وان المواطن يستحق الأفضل، لأنه أساس الصمود والثبات والعطاء، وأصبح المواطن نفسه على قدر من الوعي يجعله يرفض أن يكون مادة للاستهلاك أو أن يستهلك ويتحول إلى أنين لا يتوقف.
بقلم د.مازن صافي