يمكن التوقف أمام جملة من الحقائق التي صاحبت النقاش حول نتائج انتخابات جامعة بيرزيت التي اعتبرها البعض صادمة من حيث الفارق بين مصوتي الكتلة الإسلامية ومصوتي الشبيبة وتم سحب ما تم على مجمل الحالة الوطنية، وهو صراخ في مأتم لن يلتفت إليه أحد. إذ أن حقيقة الأمر رغم ما في خسارة فتح من مرارة أن ما حدث ليس بحجم ما يتم تسويقه من كارثة وما تحاول حماس أن تقدمه من انتصار.
فإذا كان ما حدث هو انتصار الناس لـ"نهج المقاومة" كما قالت حماس فهل خسارة حماس في انتخابات المحامين هو هزيمة أيضاً لـ"نهج المقاومة" في مهدها في غزة خاصة بعد استبسال المقاومة في الذود عن غزة في العدوان الأخير. بالطبع لا يمكن أن يكون الأمر كذلك.
كما أن ما حدث هو مقياس للحالة الوطنية فإن أحداً يود أن ينسي أن كل الانتخابات التي خاضتها الشبيبة الفتحاوية هذا العام في الجامعات كانت مشرفة وحققت فيها انتصارات خاصة في جامعات أبو ديس وجامعة فلسطين الأهلية وجامعة بيت لحم. حتى في البوليتكنيك التي اعتادت حماس على الهيمنة عليها فإن التعادل كان سيد المشهد. لكن أيضاً هل يمكن تعميم هذه النتائج! بالطبع هذه افتراضات خارج سياق الوعي حول مركبات المجتمع ومكوناته.
لاحظوا أن حماس ترى في الانتخابات فوز أو منافسة شديدة فهي مثلاً تمتنع عن المشاركة في انتخابات الجامعات التي لن تفوز فيها أو لن تنافس بقوة وقد تفوز. لا يمكن لحماس بعد الآن أن تقول أنها تتعرض لمضايقات في هذه الجامعة فيما لا تتعرض لمضايقات في تلك الجامعة، لأن السلطة هي السلطة ذاتها. الحقيقة أن حماس لا تشارك إلا حين تنافس حتى تفوز. وهذا يفتح سؤال كبير سأتعرض له لاحقاً حول جامعات غزة.
وأظن أن الجزء الغائب من النقاش يتعلق بحقيقة أن هذا يحدث في جامعة بيرزيت مهد العلمانية والوطنية الفلسطينية. لا أعرف إذا يمكن أن يتم القاء اللوم في تراجع بيرزيت نفسها على كاهل الشبيبة وفتح. لابد أن الكثير من القراء سيحنون للأيام العظيمة التي كانت بيرزيت فيها مثلاً قلعة التيار الوطني بأقطابه المختلفة. هل تذكرون كيف كانت بيرزيت قلعة اليسار الذي لم يحظ إلا بعدد من المقاعد لا يتجاوز أصابع اليد في هذه الانتخابات. صحيح أن الأمر مرتبط بأداء اليسار الضعيف وتراجعه بشكل عام، كما يمكن أن يكون مرتبط في هذه الانتخابات بأداء الشبيبة داخل الجامعة، لكن أليس جوهر الشيء يكمن في الشيء نفسه. بمعني أن الأمر متعلق ببيرزيت نفسها وبنوعية الطلاب الذين صارت تستقطبهم. وأظن أن دراسة سوسيولوجية عن خلفيات الطلاب ونوعية البرامج المقدمة وآليات تجنيد الطلبة ستكشف الكثير من المفاجآت التي لا تتحملها فتح وحدها ولا اليسار وحده.
يصار إلى تعميم ما حدث من انتخابات في جامعة بيرزت على أنه دلالة قوية على شعبية حماس في الشارع الفلسطيني، وكأن ما جري في الجامعات الأخرى لا يمكن له أن يدل مثلاً على تراجع شعبية حماس في المقابل. بالطبع لجامعة بيرزيت الذي افخر أنني أحد خريجيها، دلالة خاصة في الوعي الوطني الفلسطيني، لكن حتى بيرزيت- وأنا اقول هذا بألم- لم تعد بيرزيت التي أخذت صورتها في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، حيث في ذلك الوقت الجميل مثلاً كانت بيرزيت واحدة من عدة جامعات قليلة في الوطن وكان طلبتها يأتون من كل قرية ومخيم سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة وحتى الداخل الفلسطيني وبعض الشتات خاصة الولايات المتحدة. أظن أن هذا تراجع بصورة كبيرة لأسباب كثيرة أولها انتشار الجامعات في الضفة الغربية بشكل كبير وظهور التعليم المفتوح في كل محافظة ، وثانيها حصار غزة ومنع طلاب غزة من الوصول للضفة وغير ذلك. كما أن الحواجز الإسرائيلية بعد الانتفاضة وتمزيق الضفة الغربية إلى كاتونات كل ذلك عزز من أهمية الجامعات المحلية، التي صارت تجتذب طلاباً أكثر مما تفعل بيرزيت، وربما غلاء المعيشة في رام الله وغير ذلك .أقول لم تعد بيرزيت تمتلك تلك الصفة التمثيلية التي حظيت بها في السابق، فجل طلابها مثلاً الآن من محيط منطقة رام الله. لكن هذا لا ينتقص من أهميتها بأي حال.
تبقى نقطتان تتعلقان بحماس. فعلى ما يبدو فإن كل إدعاءات حماس حول المضايقات التي تتعرض لها في الضفة الغربية ليست صحيحة فهي تمارس عملها التنظيمي هناك وتشارك في الانتخابات بحرية وتسب وتلعن وتشتم قيادة فتح والأجهزة الأمنية وحتى رموز فتح التاريخية وتشارك في الانتخابات وتفوز ولا يتم تزوير الإنتخابات ولا سرقة الصناديق ولا شيء من الفتن العظمي التي يحب ناطقوها الرسميون التشدق بها. بصراحة علينا أن نرفع القبعة ونقول يا ليت غزة تتمتع بهذا المنسوب من حرية العمل الحزبي. وأسألوا الشبيبة ليس في الجامعة الإسلامية بل في قلعة فتح في جامعة الأزهر إذا كانت تستطيع أن تقيم مهرجاناً بحرية، وأسألوا لماذا في جامعات مثل الأقصي غير مسموح لفتح بالنشاط، وحتى في جامعة القدس المفتوحة. بالطبع هل تتصورواً ان يتم توزيع صورة الرئيس أبو مازن في الجامعة الإسلامية دون أن يختفي من يوزعها، أو أن يتم توزيع صور شهداء اللجنة المركزية دون أن تنقلب الدنيا ولا تقعد. ما اقترحه أن على حماس أن تتعلم من تجارب انتخابات الجامعات في الضفة الغربية وتوسع مساحة الحرية ولا تحتكرها في جامعات القطاع.
لصيق بهذا السؤال الكبير الذي اثاره أكثر من مسؤول فتحاوي: لماذا لا تسمح حماس بانتخابات حرة ونزيهة في جامعات غزة كما تسمح فتح بانتخابات حرة ونزيهة في جامعات الضفة؟. أذكر أنني خضت جزءاً من هذا النقاش خلال مهامي ممثلاً لفتح في العلاقات الوطنية في غزة سابقاً، وكنا نصطدم بصخرة القيود التي ترغب حماس في فرضها على النشاطات الطلابية خلال الدعاية الانتخابية. ولم نتمكن من أن نضمن حرية عمل الشبيبة وكان لسان حال حماس يقول إن الأمن لا علاقة له بالحركة وهو حر فيما يفعل، نحن نتحدث معكم كحماس. وأظن أن النائب المخضرم جميل مجدلاوي قدم مبادرات عديدة في ذلك شاركت في نقاشها معه وقتها لكنها كلها كانت تقف أمام صخرة الحقيقة: حماس لا تريد أن ترى نفسها تخسر في غزة. لذلك لابد أن نقول شكراً لفتح التي تخسر لكنها تصر على الديمقراطية.
لكن يظل أن نقول لفتح التي نحب، فتح التي حين تخسر يشعر الكل الوطني حتى خصومها في اليسار بالخطر لأن عامود الخيمة إذا انهار ستنهار الخيمة، إن عليها أيضاً أن تجري مراجعات عميقة خاصة في تفاصيل انتخابات بيرزيت نفسها من حيث ما جري في الحملة الانتخابية والقصور في بعض الجوانب، وأيضاً نسبة التصويت المتدنية لأنصار الشبيبة حيث يشارك كل أفراد حماس في الانتخابات، فيما يجتهد الكثير من ابناء فتح بعقابها عبر عدم التصويت.
والأهم من ذلك أن لا تلتفت للانتخابات فقط في المواسم وأن انتخابات بيرزيت القادمة تبدأ من اليوم الأول لهزيمة فتح يوم امس. لأننا نريد لفتح أن تظل القادرة على التعبير عن آمال وتطلعات الناس.