لقد جانب الصواب والتوفيق حركة حماس، حين أقدمت على "تشريع" ما أسمته بضريبة التكافل الاجتماعي، في أكثر من مستوى ومحتوى، فمجرد الإعلان عن الأمر، لم يحدث فقط ردود الفعل الرافضة والغاضبة لدى الغالبية الساحقة من مواطني غزة، تجارا وموظفين وفقراء وحسب، بل انه أكد مجددا على جملة من الحقائق التي تنفي ما تدعيه الحركة ليل نهار، من رفع يدها عن التحكم في القطاع وأهله، ومطالبة حكومة التوافق، بتحمل مسؤولية الناس فيه!
فمن الغني عن القول، والمعروف تماما لدى كل المجتمعات بان من يفرض الضرائب هي الحكومات المسؤولة، وليس حكومات الظل أو الحكومات المقالة أو المستقيلة، وحتى لو كان الرد بان من "شرع" القرار أو القانون هو المجلس التشريعي، فإن "حماس" نفسها تنفي من حيث لا تدري شرعية كتلة نواب غزة عن صفة التشريع، لأنهم ليسوا المجلس التشريعي، وإلا لم يكن المجلس بحاجة إلى مرسوم رئاسي بعقده، كما تطالب، إلا إذا كان الحديث يجري عن مجلس خاص بغزة، يعتبر أول ركائز كيانيته التي لن تنتهي إلا بإعلانه إمارة أو دولة حتى لا "يزعل" الأخوة أو حتى الزملاء في "حماس" من المصطلح، كذلك فإن ذلك يؤكد للمرة الألف بان قانونا أو قرارا خاصا بغزة، ولا ينطبق على الضفة إنما يؤكد الاستمرار في نهج الانقسام.
هذا من الزاوية القانونية والسياسية، أما من الزاوية الأخلاقية، فإنه حتى مصطلح التكافل، لا ينطبق على فحوى هذا التشريع، لأن الحديث يجري عن ضريبة الهدف منها إدخال نقود لخزينة من يقوم بجبايتها، ولا احد يدري أين ستذهب، كما هو حال كل ميزانيات حماس على مدى الثمانية أعوام التي مضت، خاصة تلك الميزانية الخاصة بالمال العام، مما يتم جبايته من المواطنين ومما يتم الحصول عليه من الثروة " القومية " إن كانت تلك التي على الأرض أو في البحر، أو عبر البلديات وما بينهما من تحصيل رسوم على كل المعاملات الرسمية في المحاكم والداخلية وحتى المعابر. ناهيك عن التبرعات الخارجية وما إلى ذلك.
فلم يسبق وان طرحت على الرأي العام أية ميزانية عامة في غزة، تكشف مسار الدخل وكيفية تحصيله، كذلك المصاريف ومسارات صرفها، لذا فان حكومات حماس لم تتحكم بسكان القطاع عنوة وبالقوة العسكرية وحسب طوال السنوات، بل إنها حكمتهم من وراء ظهورهم، ودون أن يعرف احد التفاصيل، ولعل بدء حكم حماس عام 2007 الذي جاء بعد انسحاب إسرائيل من جانب واحد عام 2005، أي بعد أن تحرر نحو 40% من أراضي القطاع التي كانت مسلوبة في شكل "المستوطنات" نجمت عنه سطوة من قبلها على تلك الأراضي، التي جعلت من بعضها معسكرات تدريب لقواتها العسكرية، وبعضها وضع بعض قادتها اليد عليها، لاستخدامات شخصية، أو حتى لإقامة المؤسسات الخاصة بهم (مدينة أصداء للإنتاج الفني والإعلامي، التي أقامتها شبكة الأقصى الإعلامية برئاسة فتحي حماد على ارض محررة نافية ديكاليم _ كمثال).
والمهم أن "حماس" لم تقم أية مؤسسة إنتاجية، زراعية، صناعية أو إنتاجية من شأنها أن تساهم في تشغيل المواطنين، أو في المساهمة بتعزيز عجلة الإنتاج، أو توفير الخدمة العامة ( لازم حكمها على مدار 7 سنوات انقطاع دائم للكهرباء ) وكل ما شغل بال واهتمام "حماس" هو تطوير القدرة العسكرية، وآخر نسخة من ذلك إنتاج الصواريخ وبناء الأنفاق، ولا شك بأن هذا يحتاج نقودا ومالا، فهل من شك بأن كل ذلك يجري على حساب الميزانية العامة، لذا فانه من حق الناس أن تسأل وان تتساءل عن الأولويات في الإنفاق العام، وهذا يعتبر أدنى حق في خانة الحقوق العامة المصادرة من قبل نظام حكم شمولي قاهر ما زالت تمارسه حماس في غزة.
حتى في التسمية لم توفق حماس، فالتكافل وهو مطلوب جدا في حالة القطاع الذي يعيش في أسوأ ظروف يمكن أن يمر بها مجتمع بشري، لكن التكافل برنامج اجتماعي، يقره المجموع المجتمعي، يدفع عبره الأغنياء للفقراء، ولا يكون بالإكراه بل بالتراضي، ويشمل كل مناحي الحياة، ولا شك أن حماس التي ما زالت تحكم غزة منذ ثماني سنوات، لم تفكر من قبل بمثل هذا التشريع، والسبب أنها تمر الآن بضائقة مضاعفة، الأمر الذي يوحي بأنها، إذا ما بقيت الحالة هكذا، ستقدم على ما هو أسوأ من هذا بكثير، ولعل هذه أول بشائر الخيارات الجاهزة التي بحوزتها والتي تحدث عنها، نائب إسماعيل هنية في حكومته السابقة، زياد الظاظا، تلك التصريحات التي وان كانت تجيء في سياق التهديد، إلا أنها قد تكون فعلا جاهزة للتنفيذ، وربما يجري تعديل على التشريع أو القانون المشار إليه، بحيث ينفذ على شكل أن يكون "التكافل" ليس بين أغنياء وفقراء حماس، وليس بكشف أو استرداد ما سطوا عليه من مال عام، ولكن بالسطو على مرتبات موظفي السلطة، بحيث يفرضون اقتسامها مع موظفيهم، ويحلوا ذلك الملف على طريقتهم بالقوة، ودون أي مسوغ قانوني أو إداري !
وربما تفكر حماس أيضا بفرض ضريبة "التحرير" مثلا، وضريبة المجهود الحربي أو الصمود، وحتى ضريبة الإعمار، فهناك من المسميات ما هو أكثر من الهم على القلب، ولن تعدم حماس القدرة على التبرير وفق منطقها، مهما بدا غريبا ومستهجنا، وما دامت في ضائقة فإنها بدل أن تستجيب إلى منطق العقل بالاستجابة إلى ما هو مطلوب منها لإنهاء الانقسام، أي رفع يدها خاصة العسكرية منها عن حكم غزة، فإنها ستلجأ إلى ما هو أسوأ من زيادة معاناة الناس، إلى الاستجابة للمحظور الوطني، بالركض وراء حلول إقليمية قد تكون نتيجة "صفقة" بين إسرائيل وتركيا، تذهب بغزة إلى الكيانية المستقلة، مستندة إلى أن إرهاق المواطنين معيشيا سيجعلهم في نهاية المطاف قابلين لحلول تتضمن "الكفر" الوطني!