إن ما يعصف بالكثير من الدول العربية من إضطرابات وأزمات تهدد وحدة الدولة وإستقرارها والسلم الأهلي بها، لم يأتي فجأة، كما يعتقد البعض، بل سبقه دراسات وأبحاث وخطط تمتد لعقود خلت من قبل القوى الطامعة في التوسع والنفوذ على حساب العرب، ومن قبل الكيان الصهيوني والقوى الإستعمارية، بهدف تمزيق الوحدة الوطنية للدولة العربية، وفرض مرحلة تقسيم جديدة تحل محل خارطة "سايكس بيكو"، التي رسمت خرائط الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى وإنقشاع الحكم العثماني عن بلاد العرب، والتي تم من خلالها زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، لفصل الجناح الشرقي عن الجناح الغربي للبلاد العربية، ولأجل ضمان أمن إسرائيل والحيلولة دون قيام أي شكل من أشكال التضامن العربي قد يهدد الكيان الصهيوني، كما حصل في حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر للعام 1973م، فلقد خططت وسعت الدوائر الإستعمارية والكيان الصهيوني وتحالفاتهما الإقليمية، لإستحداث صراعات بديلة عن الصراع العربي الإسرائيلي، الذي كان يثير العرب ويدفعهم إلى الوحدة والتضامن لمواجهة أخطاره، تتمثل في إستحداث صراعات بينية ذاتية تقوم على أسس عرقية (إثنية) وطائفية مذهبية، وقد أشار إلى ذلك الكاتب الصحفي الهندي البريطاني إتش جانسن كارينجا في كتابه ((خنجر إسرائيل)) والصادر في العام 1969م، والذي أشار فيه إلى سعي إسرائيل إلى تقسيم الدول العربية على هذه الأسس، ولقد قرأه أبناء جيلي في العقد السابع من القرن الماضي، وشهدنا أولى تطبيقاته، في تفجير الحرب الأهلية في لبنان عقب حرب العاشر من رمضان للعام 1973م، والتي امتدت من العام 1975م وإلى غاية العام 1990م، بهدف إشغال الثورة الفلسطينية عن هدفها وإغراقها في تلك الحرب القذرة، وضرب نسيج لبنان الإجتماعي الحاضن للثورة الفلسطينية، وتكريس الطائفية السياسية فيه، ولم تخمد تلك النار إلا على يد الدبلوماسية السعودية بقيادة المرحوم الملك فهد الذي إستطاع أن يجمع الفرقاء من مختلف الطوائف اللبنانية والقوى السياسية المختلفة في مؤتمر الطائف في العام 1990م ليضع حداً لتلك الحرب التي دامت 15 سنة، ويعيد للبنان وحدته وإستقراره فيما عرف بإتفاق الطائف.
لقد كان التطبيق الثاني والخطير لهذه السياسة ((خنجر إسرائيل)) هو إسقاط شاه إيران في العام 1978م وإحلال حكم الملالي الذي جمع بين ((القومية الفارسية والطائفية الشيعية)) على حساب القوميات والطوائف الأخرى المكونة للشعوب الإيرانية، والتي خدع بها الكثيرون، متناسين الدور الخطير الذي قامت به الولايات المتحدة في التمهيد لإسقاط شاه إيران بإستخدام مبدأ حقوق الإنسان وإنتهاكات الشاه والسافاك له، لأجل إثارة الشعب الإيراني والدفع به للثورة، التي إحيلت نتائجها إلى ملالي إيران، الذين أخذوا على عاتقهم بث روح ((الطائفية السياسية)) في المنطقة، ومذهبة الصراعات فيها، تنفيذاً ((لسياسات خنجر إسرائيل))، وكل ذلك يتم تحت شعار ((الموت لإسرائيل والموت لأمريكا)) وقد حذرنا من ذلك في العديد من المقالات والدراسات وكذلك غيرنا، من خطورة هذه المرحلة على الأمن القومي والوطني والسلم الأهلي للدول العربية، وقد توجت هذه السياسات في أتون الإنتفاضات العربية فيما عرف ((بالربيع العربي)) وتم التعويل على حركات الإسلام السياسي فيها والتي تستند إلى أسس مذهبية لتأجيج الصراعات الطائفية الداخلية في الدول العربية، ووجدت المساندة المباشرة من حكام إيران ومن الكيان الصهيوني، ووفرت لها الرعاية الأمريكية الكاملة، فكان إنتاج التطرف في البلاد العربية والمخطط له جيداً للتمهيد للإقتتال الداخلي الذي تشهده الدول العربية اليوم بدءاً من لبنان إلى العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى مصر إلى اليمن .. والقائمة تطول.
ولقد كشف موقع ((جراسا نيوز)) وثيقة تحمل عنوان تورط واشنطن في مخطط لتغيير الأنظمة العربية بتاريخ 22/11/2010م تحت عنوان ((مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية)) كأولوية خاصة، لتغيير الأنظمة في كل من اليمن والسعودية ومصر وتونس والبحرين وسوريا وليبيا، ذات الأولوية في التغيير.. وأبرزت هذه الوثيقة إنتهاج الإدارة الأمريكية سياسة الدعم السري ((لجماعة الإخوان المسلمين)) ومساعدات أخرى للمتمردين، وبناء منظمات مجتمع مدني، بغية إحداث تغيير يخدم السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكيين ..! وخدمة الكيان الصهيوني منه في المقدمة...!
وبعد كل هذه الخطط والوثائق والتي لم تعد سراً على أحد، يأتي من العرب من يقاوح ويبث سمومه عبر الملوثات الفضائية صباح مساء ليدافع عن الدور الإيراني في العراق أو سوريا، أو اليمن، وفلسطين، وينتقد أي محاولة لمواجهة هذه المخططات الإجرامية ويشكك في نوايا الجهود المخلصة لمواجهتها وخصوصاً من قبل المملكة العربية السعودية في إطفاء نار الفتنة الطائفية والمذهبية في المنطقة، بدءاً من لبنان وصولاً إلى اليمن وما بينهما ورفضها الإنصياع والتسليم لأهداف هذه السياسات الجهنمية التي تستهدف الكينونة العربية على مستوى وحدة المجتمع والدولة، وهنا لابد أن نسجل أن عاصفة الحزم ومن ثم عاصفة الأمل التي تقودها العربية السعودية، ماهي إلا إمتداد لسياسة حكيمة راسخة للمملكة العربية السعودية تهدف الحفاظ على الأمن والإستقرار لجميع الدول العربية والحفاظ على السلم الأهلي للمجتمعات العربية، وإبعاد شبح الحروب الداخلية وإطفاء نار الفتن الطائفية، وإستعادة التضامن العربي المفقود ولو بحده الأدنى والقادر على حماية الأمن الوطني والقومي لجميع الدول العربية كافة، فالرَّد على الطائفية السياسية والمذهبية ومواجهتها لابد أن يكون رداً وطنياً وقومياً بإمتياز.
بقلم/ د. عبد الرحيم محمود جاموس