كل الدلائل تشير إلى أن حركة حماس في ضائقة جدية، لم تمر بمثلها منذ أن وصلت إلى السلطة التنفيذية، بعد انتخابات العام 2006، وسيطرتها بالقوة العسكرية على غزة عام 2007، وهي ربما تشبه إلى حد ما، أول عام لها في الحكم، أي بعد تشكيلها للحكومة العاشرة، من الفترة (آذار 2006 إلى آذار 2007)، ومن ثم الفترة العصبية التي أفضت بها إلى الانقلاب على السلطة، والدخول بعدة اقتتالات داخلية، خلال العام 2007، بما سمي حينها بتصفية المربعات الأمنية، ضد عائلات ومراكز قوة عسكرية، في كل من عائلتي حلس ودغمش.
ومن تابع وراقب تلك الفترة ما زال يذكر، أن حماس قد حدت من ضائقتها تلك بعقد تهدئة لمدة ستة أشهر مع إسرائيل، وبابتداع ما سمي حينها باقتصاد الأنفاق، الأمر الذي «خفف» الضغط عنها، والذي جعلها بالتالي، تخرج لسانها للمصالحة، بعد أن كانت تلهث وراءها خلال فترة ما بعد الانقلاب مباشرة، وما زلنا نذكر كيف أن وفد حماس لمفاوضات القاهرة في نهاية عام 2007، وبعد أن وصل إلى قاعة المغادرة في رفح، عاد أدراجه، بعد أن لوحت له إسرائيل بورقة التهدئة، التي أبقت على حالة الانقسام طوال عام 2008، وصولاً إلى نهايته، حيث ردت حماس مع انتهاء مهلة التهدئة برشقة صواريخ، جرت إسرائيل لحربها المدمرة الأولى على غزة، والتي كانت تريد منها حماس أن تفتح لها بوابة رفح!
خلال ذلك العام 2008 استطاعت حماس أن ترسي اقتصاد الأنفاق، الذي جلب لها أموالاً طائلة، مكنتها من السيطرة الفعلية على غزة، ومن احتواء آثار ذلك الانقسام، بل وحتى احتمال مظاهر الحصار، التي لم تكن محكمة أو تامة على أية حال، ومكنتها من جر حركة فتح إلى مفاوضات مصالحة _ بشروطها تقريباً _ أي الدخول في متوالية مباحثات جابت بها العواصم العربية من القاهرة إلى دمشق، مروراً بالدوحة والرياض وصنعاء، دون طائل أو نتيجة.
ومع حلفاء إقليميين متعددين ومتنوعين، من تركيا إلى إيران، مروراً بقطر وحزب الله والإخوان، تنفست حماس الصعداء، واحتوت ردود الفعل داخل قطاع غزة، بما في ذلك الحشودات الشعبية التي كانت تجعل من مناسبات ذكرى استشهاد الزعيم التاريخي لفلسطين الراحل ياسر عرفات أو ذكرى انطلاقة فتح، وحتى ذكرى انطلاقات الفصائل ومنها الجبهة الشعبية، فرصتها للتعبير عن احتجاجها على «خطف» حماس لغزة، وجعلها رهينة صراعها السياسي مع سلطة فتح، حتى وصلت إلى مناسبة وصول إخوان مصر للحكم في القاهرة، حينها «رقص» إسماعيل هنية طرباً، ووزع الحلوى بنفسه على أنصاره ومحازبيه في غزة، فيما أغلقت حماس كل الأبواب أمام المصالحة، ومن باب أولى بوابة إنهاء الانقسام!
المهم في كل هذا أن حماس تبدو الآن، وكأنها تعود مجدداً إلى الحالة التي كانت عليها عام 2007، بعد أن وضعت مصر حداً لاقتصاد الأنفاق، وبعد أن فقدت حماس جزءاً أساسياً من حلفائها، بالتحديد سورية، والى حد ما حزب الله وإيران، كذلك تراجع حماسة قطر للمشروع الإخواني برمته، فها هي تبدي لهفة أعلى في مستوى الدرجة للمصالحة، دون أن تصل إلى حد الاستعداد لإنهاء الانقسام، مع لهفة أكبر للتعاطي مع ما يمكن أن تلقي به، لها إسرائيل من حلوى مسمومة!
أولاً من الجدير الإشارة إلى أن دعم الحلفاء، ليس كله مالاً، بما يعني أن تعويض ما نجم عن تدمير الأنفاق، أمر صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، فتركيا تقدم دعماً سياسياً، كذلك إيران وحزب الله يقدمان دعماً عسكرياً، أي دعماً من شأنه أن يعزز سيطرة عسكر حماس على الحركة، وأن يجعل من مشروع حماس بيدقاً ضمن المشروع الإيراني في المنطقة، وليس درة للمشروع الإخواني، كما أن الحفاظ على حلفاء إقليميين ذوي مشاريع متعارضة (إيران - حزب الله - سورية) من جهة، ثم (السعودية - مصر) من جهة ثانية، و(قطر - تركيا) من جهة ثالثة، لا شك أنه أمر شبه مستحيل، مع تصاعد الاشتباكات الإقليمية والتعارض بين أطراف هذه المحاور، لذا فإن ضائقة حماس حقيقية وصعبة، وتظهر أعراض ذلك على ما يبدو أنه أولاً تباين في التصريحات والمواقف بين قياداتها، فهي من جهة تظهر «صمت» قيادات الخارج (مشعل والرشق وأسامة حمدان وحتى أبو مرزوق) في الوقت الذي تنحصر فيه بين عناصر الصف الثاني من قياداتها داخل غزة، وثانياً في حدة تلك المواقف التي باتت تضيق ذرعاً بأي رأي أو موقف معارض أو مختلف، كذلك الإعلان عن خيارات حماس العديدة، والتي يبدو أنها تعني التعاطي مع مشاريع «فك ارتباط» غزة بالضفة، عبر صفقة تركية إسرائيلية، تحدد ملامحها إلى درجة كبيرة زيارة جيمي كارتر المرتقبة.
ولعل ما ظهر من رد فعل لعضو حماس في المجلس التشريعي عاطف بدوان، على رأي النائب عن الجبهة الشعبية الرفيق جميل مجدلاوي، ما يظهر بشكل جلي مستوى التوتر، الذي بلغ حدود الوقاحة وحتى الصفاقة، حين أظهر عدوان استخفافه باليسار الفلسطيني كله، وحين رفض حتى مجرد الدخول في مناظره مع زميله النائب!
لابد من القول بأن إعلان كتلة حماس البرلمانية في غزة عن «قرار» أو قانون أو تشريع ما يسمى بـ (ضريبة التكافل) قد قوبل برفض شعبي واسع لأكثر من سبب ولعدة اعتبارات، كنا تعرضنا لها في مقالنا السابق في»الأيام»، لكن ما يمكن التنويه له هنا، على هامش تلك «الملاسنة» بين النائبين، هو أن حماس قد تجاهلت رسمياً الأمر، فيما ردت «الشعبية» ببيان بالغ في إظهار التعقل والحرص على الأجواء الداخلية التي لا ينقصها التوتر، فيما كان يمكن أن يكون منطقياً ومفهوماً أن تطالب الشعبية حماس باعتذار رسمي، وأن تدعو لمسيرة شعبية تؤازر النائب مجدلاوي، وتعبر عن رفض ضريبة التكافل!
مع كل ذلك فإن النائب الوطني الشجاع، والذي يتمتع باحترام شعبي واسع، خاصة بعد أن دشن سعيه للتجديد حتى داخل فصيله، بترك موقعه القيادي في آخر مؤتمر، يكون قد دشن ما يمكن وصفه بصندوق الشكاوى، ضد حماس وحكمها المستبد والمتواصل دون أي سند شرعي أو شعبي أو حتى وطني، منذ عام 2007 وحتى اللحظة.