إنها ساعاتٌ حرجةٌ، وأيامٌ خطرة، ومرحلةٌ مصيرية، تلك التي يمر بها الشعب الفلسطيني عموماً، وسكان قطاع غزة على وجه الخصوص، وإن كانت الأزمة عامة، والمصيبة طامة، والكارثة شاملة، والشكوى على كل لسان، والتذمر لدى كل السكان، في الوطن وفي اللجوء والشتات، إلا أن المحنة التي يعيشها سكان قطاع غزة، والأزمة التي يواجهون، والظروف التي يمرون بها، وحالة الحصار التي يقاسون ويلاتها، لم يسبق لهم أن عاشوا مثلها، أو مروا بظروفٍ تشبهها أو أسوأ منها.
فقد أذاقتهم المحنة مرارتها، وعصفت بهم نارها، وذرتهم رياحها، وسحقتهم عجلاتها، وهي اليوم تعصف وتقصف وتقتل وتحرق وتذري، ويُترك القطاع وسكانه فيها وحدهم فرادى وغرباء، يواجهون طاحونة الموت وغول الحصار، وينساهم الأهل، ويتخلى عنهم الأشقاء، ويهملهم الأصدقاء والحلفاء، ويمعن في تعذيبهم والقسوة عليهم الخصوم والأعداء، في سابقةٍ غريبةٍ، ومعاملةٍ عجيبة، ومعاناةٍ شديدة.
لعلها المرة الأولى التي يشكو منها سكان قطاع غزة بهذه المرارة، بصوتٍ عالٍ يشبه الصراخ، وعويلٍ يختلط فيه نحيب النساء ببكاء الأطفال، وتختنق فيه العبرات بين آهات الرجال وحسرات الشيوخ، وتحتار فيه القوة ويعجز فيه البأس، ويتساوى فيه الغنى والفقر، والقوة والضعف، والكثرة والقلة.
فقد زادت معاناة الناس، وتضاعفت آلامهم، وبُح صوتهم، وخاب رجاؤهم، وضاع أملهم، وسكن اليأس قلوبهم، وحل الاحباط في نفوسهم، وما عادوا يرجون من غير الله فرجاً، ومن حكومات أمتهم أملاً، فقد تخلوا عنهم وابتعدوا، وتركوهم لملماتهم وانشغلوا، وسلموهم لعدوهم وانكفأوا، فما عاد يهمهم جوعهم، ولا تحرك ضمائرَهم معاناتُهم، ولا يستفزهم بكاءُ الأطفال، ولا آهةُ المرضى وأنينُ الجرحى، ولا يحزنهم غيابُ المعيل، وسجنُ الأب والشقيق، وحرمانُ الولد من أبيه، وحسرةُ الوالد على فلذة كبده، أو انفطارُ قلبِ الأم على ولدها حسرةً، وحزن الأخت على شقيقها كمداً.
أهل غزة اليوم باتوا كالأيتام على موائد اللئام، وحيدين في مصيبتهم، وغريبين في نكبتهم، لا يؤنس وحشتهم أحد، ولا يساعدهم أخٌ أو شقيق، فقد تخلى عنهم الأهل والأصحاب والأخوة والخلان، وامتنعوا عن مساعدتهم، ومنعوا غيرهم من تقديم العون لهم، فلا مساعداتٍ قدموا، ولا لآخرين أفسحوا المجال، ويسروا لهم المهمات، بل عقدوا مهماتهم، وعطلوا حملاتهم، وشوهوا جهودهم، واتهموهم في نياتهم، وزجوا ببعضهم في سجونهم، وصادروا ما معهم، وهددوهم بمصيرٍ أقصى وعاقبةٍ أشد إن هم غاروا على غزة وأهلها، وغضبوا لها ومن أجلها، وسعوا لجمع المال لها وتقديم المساعدات لأهلها.
أيتها الحكومة الفلسطينية العتيدة، يا حكومة الوفاق الرشيدة، أيتها القادمة من بعد فرقةٍ طويلة، وانقسامٍ عميقٍ، وشرخٍ كبيرٍ، ودعاءٍ صادقٍ، ورجاءٍ دائم، ألا ترين ما نرى، وتسمعين ما نسمع، وتعرفين ما نعرف، أم على قلوبك أقفالٌ، وفي آذانك وقرٌ، وقد أصاب عيونك العمى، وران عليك الزمان أو تآمر عليك الخلان، أم حِيلَ بينك وبين الحق، وفُصلتِ عن أهلك، وعُزلتِ عن شعبك، أما وصلتك أخبار القطاع وأهله، ورأيت صورهم الكئيبة ووجوههم البائسة الحزينة، أما رأيت عيونهم وقد جافاها النوم، وأجسادهم وقد حل بها السقم، وقلوبهم وقد سكنها اليأس، أما ترين الرجال يرومون بحثاً عن عمل، ويكدون في سبيل الرزق، ويجوبون الأرض بحثاً عن لقمة عيش، يسكتون بها جوع أطفالهم، ويسترون بها مخمصتهم، ولكنهم يعودون بخفي حنين جياعاً، ولا شئ في جيوبهم، ولا ما يحملون في أيديهم.
ألا تشعرين أيتها الحكومة الرشيدة بمعاناة الناس وبؤس حالهم، أما علمتِ أنه لا مال بين أيديهم، ولا وظائف عندهم، ولا تجارة بينهم، ولا عرباتٍ تقلهم، ولا كهرباء تنير ليلهم، وتحرك آلياتهم، أو تشحن هواتفهم، ولا ما يشغل تلفزيوناتهم، ويجعلهم يتحلقون في بيوتهم، سمراً وسهراً، أو متابعةً ومشاهدة، بل لا شئ في بيوتهم مما يطبخونه أو يأكلونه، إذ لا مال عندهم به يشترون ويملكون، فقد ضاقت عليهم الدنيا، وعادتهم أطرافها، فما عادوا قادرين على العيش الكريم، ولا على الحياة الآمنة المطمئنة، بلا خوفٍ من جوعٍ يقرص بطونهم، أو يوقظ في الليل أطفالهم، أو يوهن أجساد رجالهم ونسائهم.
ألا ترونهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وجلهم يسكن في العراء، أو يبيت في الخيام، أو يلجأ إلى المدارس والمؤسسات، في تجمعاتٍ كبيرة، لا خصوصية فيها ولا خدماتٍ تكفيها، ولا فصل شرعي بين ذكورها وإناثها، بعد أن هدمت الحرب بيوتهم، ودمرت مساكنهم، وسوت بالتراب مصالحهم، فلم يعد عندهم ما يسترهم في الليل، ولا ما يقيهم حر أو برد النهار، ولا يوجد في الأفق بادرة أمل، أو بصيص نورٍ يبدد ظلامهم، أو يحيي في نفوسهم أمل العودة، وحلم البناء والتعمير من جديد.
ألا ترونهم يُحاصرون ولا يُغاثون، ويُعصرون ويُسحقون، ويخنقون ولا ينقذون، ويعاقبون ويضطهدون، ويعذبون ويسامون، فلا مريضهم يعالج، ولا طالبهم يدرس، ولا عاملهم يعمل، ولا مغتربهم يعود، ولا شتاتهم يجمع، وكأنهم في سجنٍ كبير، لا يسمح لهم منه بالخروج، ولا لغيرهم بالعودة إليه والإقامة فيه، وقد مضى على حصارهم سنوات، حتى صدئت الأبواب، وتمنعت الأقفال، وضاقت النفوس وتحشرجت الأرواح، وما من حديثٍ لهم إلا عن المعبر ومواعيد فتحه، وساعات خروج المواطنين منه وإليه وأعدادهم.
لستُ في هذا مبالغاً أو مغالياً، ولا أستخدم مفرداتٍ لا معنى لها، أو وصفاً لا وجود له، فأهلنا في غزة يعانون ويشكون، وبعالي الصوت يصرخون، فقد مس الألم عظامهم بعد أن أكل من أجسادهم لحومها، ونال من كرامتهم سنامها، إنهم لا يبحثون عن مالٍ فقط، ولا عن مساعدةٍ مؤقتةٍ لأيامٍ، إنما يتطلعون إلى عملٍ وتجارة، وإلى زراعةٍ وصناعة، وإلى وظائف وأعمال، ورواتب وأجور وخدمات، وإلى ما يحرك اقتصادهم، ويسيل أموالهم، ويشغل شبابهم، وينشط حياتهم، وينعش اقتصادهم الضعيف، ويبعث فيه الحياة من جديد.
أيتها الحكومة الوطنية الرشيدة، يا حكومة الوفاق العتيدة، هذا وقتٌ لا ينبغي فيه الالتفات لغير الشعب ومصالحه، وهمومه وحوائجه، فلا مناكفة ولا منافسة، ولا عناد ولا تعطيل، ولا حساباتٍ شخصية ولا منافع حزبيةٍ، إنما هي همةٌ عالية، وجهدٌ دؤوب، وعملٌ متواصل، وإخلاصٌ دائم، وصدقٌ لا شك فيه، علنا نخرج وشعبنا من الأزمة، فمهمتكم جهادٌ، وسعيكم مقاومة، ما أقلتم عثرة شعبكم، وما كانت جهودكم صادقة، ومساعيكم مخلصة، فإن الله لن يتركم أعمالكم، ولن يضيع جهدكم.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي