معلوم أن القضاء الشرعي من فروض الكفايات عند جميع المسلمين لا خلاف بينهم على أنه واجب كفائي لرفع التظالم وفصل التخاصم، له منزلة كبيرة وهيبة عظيمة لأنه وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفصل في الخصومات بين الناس ونصرة المظلوم وردع الظالم وإيصال الحق إلى أهله والإصلاح بين الناس والحكم بما شرع الله في القرآن الكريم والسنة النبوية لأنهما مصدري الشريعة الأساسيين . ومعلوم ايضا ان الاسرة هي نواة مهمة في بناء وتكوين المجتمع وحجر الزاوية فيه وبثباتها واستقرارها يتحقق الامن الاجتماعي والاستقرار للمجتمع وهذا نابع من تصور الإسلام لمفهوم الأمن للأسرة ،ولاجل ذلك حرم ديننا الاسلامي العظيم هدم الاسرة وممارسة العنف ضدها والعمل على اهتزاز كيانها او حصارها او تجويعها وحث على العمل لتوفير سبل العيش لها وتسهيل سكنها واعاشتها وفتح ابواب الرزق لها وعدم فرض عقبات امام رقيها وتقدمها .
ولأجل ذلك لابد أن يكون للقضاء الشرعي دور كبير في حماية الأسرة ووقايتها وسعادتها فالحماية التشريعية التي يطبقها القضاء هي صمام الأمان لتحقيق الاستقرار والأمن للمجتمع خاصة أن هذه التشريعات نابغة من التصور الإسلامي لمفهوم الحماية والذي تعني من وجهة نظري العمل على وقاية المجتمع المسلم من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي قد تؤدي به إلى الهلاك والانهيار والانحراف عن السلوك الإسلامي القويم وعلاجها من منظور إسلامي صحيح وبذلك يحمي المجتمع ويعطيه القوة والتماسك.
ومن هنا فان كتب تاريخ القضاء في الاسلام زخرت بالأحكام الشرعية، وكان الفقه الإسلامي بمصادره المؤسسة على الكتاب والسنة مرجعا للفصل في الدعاوى التي تقام لدى المحاكم وذلك لشمول هذا الفقه وعمومه وصلاحيته لكل زمان ومكان واتساع مصادره وخصوبة قواعده فظل القضاء الشرعي الفلسطيني شاملا لكل أنواع الدعاوى إسلاميا شرعيا ولمدة تزيد على ثلاثة عشر قرنا من الزمن إلى أن ألغيت الخلافة العثمانية وأنشئت المحاكم النظامية التي طبقت القوانين الوضعية المستوردة، وأصبحت المحاكم الشرعية في بعض الدول الإسلامية مختصة بنظر مسائل الأسرة والتي اصطلح على تسميتها بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والحضانة والإرث والوصية والهبة والحجر وغير ذلك من المسائل التي تفصل فيها المحاكم الشرعية حاليا، وفي بعض الدول ظل القضاء الشرعي مستقلا صامدا قويا أمام تيارات الضم إلى القضاء النظامي وهذا ما كان في فلسطين فرغم كل المحاولات الساعية لإلغائه إلا أنه اتسع وتطور وأصبح المعقل الأول لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في فلسطين حتى ولو كان ذلك في الأحوال الشخصية فقط إلا أنه ظل مستقلا فيها. وكان سابقا للقاضي الشرعي هيبة عظيمة من منطلق أن منصبه رفيع وأهميته عظيمة وكان من ينصّب للقضاء يعتبر ذلك هما كبيرا وحملا ثقيلا .وان فلسطين زاخرة بقضاة شرعيين اسماءهم لمعت في كل مكان - فرحم الله اصحاب الفضيلة الذين تعلمنا من تراثهم القضاء الشرعي الشيخ خلوصي بسيسو والشيخ مصطفى الشوا والشيخ محمد ابو شعبان والشيخ محمد عواد وغيرهم من القضاء الشوامخ الذين اسسوا المحاكم الشرعية و كانوا ذات هيبة وصيت اذا دخل مكانا يقف له الجميع واذا سار في الشارع اشر عليه الناس، كان القاضي الشرعي عالما واماما ومصلحا بين الناس وحاكما وسياسيا ووطنيا، وقفوا سدا منيعا في وجه الاحتلال وتصدوا لهم بقوة ومنعوهم من فرض قوانين عليهم سوى الاحكام الشرعية ..كانوا شوامخ بعلمهم واخلاقهم ووحدتهم وعدالتهم ..كان ولاؤهم لدينهم الاسلامي وفلسطين لاحزبية ولافئوية .
وعلى ذلك اوصي نفسي وإخواني وزملائي "القضاة الشرعيون" التمسك بتقوى الله في السر والعلن فالمطلوب قضاة متمسكون بعقيدتهم الإسلامية وأخلاقهم المثالية ظاهرين على الحق ماسكين لميزان العدل بأيد لا ترتجف وقلوب تحركها خشية الله تعالى ،يشعرون بحجم ثقل المسؤولية التي كلفهم الله تعالى بحملها والبعد عن التجاذبات السياسية الفلسطينية الداخلية والحزبية والفئوية وعدم إقحام القضاء فيها وإعطاء النموذج للقضاء الشرعي الفلسطيني الذي باتت فلسطين بل والأمة بأسرها بحاجة إليه للتأكيد على تطبيق الشريعة الإسلامية في كل فلسطين والحفاظ على القدس والمقدسات الإسلامية. ومعلوم شرعا وقانونا انه يجب على القاضي الايكون منتميا لاي حزب او تنظيم سياسي وعليه ان ينهي عضويته عند تعيينه باي حزب او تنظيم كشرط لتولي القضاء وهذا ما نصت عليه الفقرة 6 من المادة 16 من قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2000م وهذا الشرط ينسجم مع مبدأ استقلال القضاء وحياديته وبعده عن التجاذبات السياسية وهومبدأ مهم لترسيخ اسس العدالة وتطبيقها على الواقع وحتى لايكون القاضي اسيرا للحزب الذي ينتمي اليه واحكامه تصيبها الهوى والجور والميل الحزبي وهذا مايتنافى مع العدالة التي اشترطها الفقهاء..يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي اخرجه ابو داود في السنن عن ابي هريرة " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار " وقوله في حديث آخر رواه الترمذي في السنن :" ان الله مع القاضي ما لم يجر فاذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان " ومعنى الجور هو الظلم وأحد الاسباب التي توصل القاضي الى الظلم والهوى والميل هو الانتماء الحزبي والحكم بكتاب الحزب وسنة الحزب واجتهاده بفكر الحزب ..روى معاذ بن جبل رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اراد أن يبعثه الى اليمن قال : "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله : قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله" . أين نحن من ذلك ؟؟؟؟
أرجو من الله أن يجنبنا الزلل ويتقبل منا العمل وأن يوحد شطري الوطن .وان نتقى الله في اهلنا وقضائنا وانفسنا وان يتخلى كل قاض عما في نفسه من ميل او هوى وان يكون ولاءه لدينة وضميره مستقلا بعيدا عن اي تجاذبات سياسية او حزبية .
القاضي د. ماهر خضير