يناقش بعض المسئولين في سلطة الأراضي في قطاع غزة آلية توثيق ملكية الأرض الفلسطينية التي اغتصبها الصهاينة سنة 1948، والهدف من ذلك هو حفظ الحقوق، وأرشفه الوثائق خوفاً عليها من الضياع، ولكنهم في الوقت نفسه يناقشون آلية توزيع هذه الأرض بعد أن يتم تحريرها من الصهاينة، ويتساءلون: هل الأرض المحررة بالمقاومة تبقى ملكاً لصاحبها الذي طرد منها سنة 48، أم أن الأرض المحررة تصير ملكاً عاماً، ومن حق المقاومين الذين اسهموا في تحريرها أن يعاودوا توزيعها على قطاعات الشعب الفلسطيني وفق احتياجاته؟
للوهلة الأولى يبدو أن الحديث عن تحرير أرض فلسطين أضغاث أحلام، وترفاً سياسياً، ولاسيما في هذه المرحلة التي يشكو فيها الناس الانقسام، ويحاصر الصهاينة قطاع غزة، ولكن مع التدقيق في واقع المجتمع الإسرائيلي، وبعد الإصغاء إلى ما تردده كلمات أغنية تنتشر هذه الأيام في أوساط الشباب الإسرائيلي، تتجلى مصداقية تفكير المسئولين في سلطة الأراضي، إذ تقول كلمات الأغنية العبرية: وداعا يا أرض العسل، ها نحن نغادرك للنجاة، لأن القتل والدم يغمرك، ونحن لم نجد فيك غير الحزن، نغادرك من أجل أن نحيا.
كلمات الأغنية العبرية لا تشجع على رحيل اليهود من أرض فلسطين فقط، كلمات الأغنية تحاكي الواقع الذي يؤكد أنه للمرة الأولى في تاريخ الدولة العبرية، يكون عدد اليهود الهاربين من أرض فلسطين أكثر من عدد اليهود القادمين إليها.
الهروب من أرض فلسطين لم يكن شطر بطر، الهروب من فلسطين جاء ردة فعل غريزية للخوف الذي سكن مفاصل اليهود أثناء الحرب على غزة، تلك الحرب التي قدم فيها الفلسطينيون التضحيات، ولكن نتائجها لم تكن في صالح دولة الكيان، وهذا ما صرحت فيه كل الأوساط القيادية السياسية والأمنية والعسكرية الصهيونية، لقد اعترف جميعهم أن المقاومة الفلسطينية باقية، وأن القضاء عليها غير ممكن، وأن صد صورايخ المقاومة أمر مستحيل.
وحتى يكتمل المشهد على أرض فلسطين، فلا بد من الإشارة إلى الجزء الآخر من واقع المجتمع الإسرائيلي، الجزء المتطرف والمتعصب دينياً، والذي يمثل بعضه الحاخام اليهودي المتطرف "نير بن آرتسي" والذي يزعم أن لديه قدرات خارقة، ولديه الكثير من الأتباع الذين يصدقون حديثه عنه المسيح وعن الخلاص القريب، يقول هذا المتطرف اليهودي:
الرب تبارك اسمه، يبث الصراعات بين الشعوب، والأديان على اختلافها، حتى لا يقفوا في طريق شعب إسرائيل. الويل والويل لأي دولة أو رئيس وزراء أو حكومة يعترض طريق الأرض المقدسة، ويفكر في أخذ أجزاء من أرض إسرائيل، أو يتدخل في أرض إسرائيل، الويل لهم. انظروا ماذا حدث في الماضي لكل شخص أو دولة أرادت أخذ أجزاء من إسرائيل، أو التدخل فيها، خالق العالم يدمرهم ويورطهم في صراعات لا نهاية لها.
ما أوسع الهوة بين كلمات الأغنية اليهودية التي تفر من أرض فلسطين، وبين تعاليم هذا المتطرف الذي يدعي القداسة!
سأجتهد في الرأي، وأقول: إن هذا التناقض بين لغة الهاربين ومنطق المتطرفين يرجع إلى النهج السياسي الفلسطيني المتناقض، فإذا نظر اليهودي إلى المقاومة في غزة، فإنه لا يفكر إلا في الهروب، ويحسب أن رب اليهود قد تخلى عنه، ولكنه إذا نظر إلى الأمن الذي يعيش فيه المستوطنون على أرض الضفة الغربية، فإنه لا يفكر إلا في البقاء، والرسوخ على هذه الأرض، ويحسب أن رب اليهود يقف إلى جانبه.