منذ أيام أخذت أم ضياء تهتم بالتفاصيل الصغيرة الواجب تحضيرها في استقبال ابنها الأسير «محمد»، لم تجد صعوبة في الابحار داخل ذاكرتها لاستحضار الأشياء التي يحبها ابنها، لم تكن بحاجة للعودة الى الماضي بقدر ما كان عليها أن تنهل من الماضي الذي يسكن حاضرها، لطالما عاشت بين ثنايا الماضي منذ اعتقال ابنها ضياء، وتشبع حاضرها بماضيها عندما انضم محمد الى شقيقه ضياء في قائمة الأسرى، راحت تدقق في الأشياء تخشى أن يسقط شيئاً منها سهواً، لن تسمح للنسيان أن يقتحم اهتمامها حتى وان تعلق ذلك بشيء ثانوي، الملابس وألوانها والحلوى التي يعشقها وفنجان قهوة الصباح وخبز الطابون والشجرة التي تحرس البيت واضناها طول الانتظار، هو التحدي الذي تنتصر فيه بحاضرها على ألم الفراق الذي امتد طويلاً.
على مدار سنوات طويلة عاش معها حلمها باحتضان ابنيها، بات جزءاً من واقعها اليومي، تطلق العنان له كي يبحر بها في طفولتهما وشبابهما، ترسم صورة من الماضي، مطبوعة في الذاكرة، على وجهها ابتسامة، قبل أن يباغتها الواقع، تستحضر معه أدوات الصبر التي تمتلك ناصيتها، لسنوات طويلة لم تترك أم نضال مناسبة تخص الأسرى الا وتواجدت فيها، بدءاً باعتصام ذوي الأسرى الاسبوعي أمام مقر الصليب الأحمر، مروراً بالفعاليات التي تنظم دعماً للأسرى، وانتهاء بالتواصل مع ذويهم، كانت دوماً تجد حرية أبنائها في حرية الأسرى المفرج عنهم.
هذه المرة لم يتبخر انتظارها كما كان عليه الحال في المرات السابقة، كم كان مؤلماً لها وهي تتابع أسماء الدفعة الأولى من الأسرى المنوي الافراج عنهم ضمن الاتفاق المبرم مع حكومة الاحتلال، حين علمت أن ابنها ضياء لم يكن بينهم، عولت أن تضمه الدفعة الثانية، وكذلك فعلت حين اقترب موعد الدفعة الثالثة، وعندما خلت الأخيرة من ابنها علقت آمالها على الدفعة الرابعة والأخيرة، رغم القلق وألم الانتظار الذي صاحبها عند حصر أسماء الأسرى المنوي الافراج عنهم في الدفعات المتتالية، الا أنها لم تخف فرحتها بكل أسير منهم يعانق الحرية، ولم تكتم تخوفها من تلاعب حكومة الاحتلال، كأن قلب الأم الذي أتعبه طول الانتظار كان يحدثها بأن حكومة الاحتلال لن تفي بتعهدها ولن تفرج عن الدفعة الرابعة من الأسرى، بقدر الألم الذي تملكها من تنصل حكومة الاحتلال من الالتزام بما اتفق عليه، بقدر ما وقفت بصلابة كي لا يكون في الافراج عن الدفعة الرابعة شيئاً من الابتزاز السياسي.
بعد سنوات طويلة يعانق محمد أنسام الحرية وتتمكن أمه من أن تضعه في حضنها من جديد، دون أن يعيقها قضبان السجن ولا عنجهية السجان، تضمه اليها بعمر سنوات غاب عنها، وتترك عينيها واحدة تتفحص ابنها المحرر وما فعلته السنوات بالطفل الذي عاد اليها رجلاً، وأخرى تبقيها على شقيقه الذي ما زال خلف القضبان، وتتطلع لليوم الذي ينعم فيه هو الآخر وكافة الأسرى بالحرية، ان كانت حرية محمد اليوم شهادة انتصار السجين على السجان، فالمؤكد أن أم ضياء سجلت بصبرها لوحة مشرقة في الوطن.
بقلم/ د. أسامة الفرا