أزحف باتجاه الحاجز بإيقاع يذكّر بتنهيدات بنفسج صالح عبد الحي الحزين. عيناي تتابعان، بحذر، الطريق ومسودّة مقال، أعدّه للنشر، كانت ملقاة على المقعد. لم أعرف أن جنود الحاجز لاحظوا أنني منهمك بشيء ما أمامي إلّا عندما وصلت بجانبهم، فسألتني مجندة، الليل في وجهها واجم، عمّا أشغلني. استدعت زميلها الذي كان يجيد العربية، فأبدى هو ومن تجمّع حولي من جنود، اهتمامًا بما رأوه.
لم أعترض، ناولته المسودّة، فبدأ يقرأها بدون أن تتبدّل قسمات وجهه الذي بقي كلون الرمل في صيف قائظ في صحراء النقب. كان يقرأ ويترجم ما يريده لزملائه، وكنت أستمع..
قامت، قبل أيام، مجموعة تدعى «نكسر الصمت» بنشر سلسلة جديدة من شهادات جنود إسرائيليين، تعرّضوا فيها لبعض الممارسات التي شاركوا في تنفيذها أو كانوا شهود عيان عليها، خلال عملية «الجرف الصامد»، وهو الوصف الذي أطلقه الإسرائيليون على عدوانهم الأخير على قطاع غزة.
من المؤكد أن ما كشفت عنه هذه الشهادات يعرّي جزءًا صغيرًا من الخبايا التي رافقت ذلك العدوان ومن شيطانية آلة الحرب الإسرائيلية، التي تعمّدت إيقاع أكبر الخسائر البشرية والماديّة، حسبما ترويه شواهد قبور من قضوا فيها وعذابات آلاف الجرحى، وتشهد عليها كذلك أكوام الخرائب والدمار المنتشر في كل زاوية وجهة من مدينة هاشم المحاصرة. مع ذلك، فإن هذه الطائفة من الشهادات تشكّل وثيقة إضافيّة جديدة مهمّة لإثبات منهجية العقلية الحربية الإسرائيلية، كما دأبت أجيال محاربيها الأوائل وحرصت على التأسيس لها في زمن»النكبة»، ومن ثم توريثها تعاليمَ موجبةً تعتمد الترهيب والبطش كعمودين أساسيّين يقوم عليهما خباء جيش الاحتلال وانتصاراته الملتبسة.
جميع هؤلاء الجنود، الذين وصل عددهم، هذه المرّة، إلى ستين، يعرفون أن للحرب قواعدها، وأن»الهمجية» تكون بالعادة، صفة لصيقة بتداعيات المعارك العسكرية، حيث على الجندي أن يقاتل فيها كي يٓقتل ليضمن حياته، وربما النصر لبلاده، وهذا لا يتحقق، كما حصل في كثير من الحالات، إلّا وهو مصحوب باقتراف الفظائع واقتحام الكبائر.
مع هذا، فاللافت في شهادات هؤلاء الجنود كان تأكيدهم على ألا علاقة لما يروونه بقواعد تلك الحرب، فهم بوازع من ضمائرهم، يشهدون على ممارسات تعمّدت استهداف الضحايا الأبرياء، حتى لو كانوا شيوخًا ونساءً وأطفالًا، فقادتهم، آمنوا بأن «كل من سترونهم من قريب ومن بعيد هم مخربون»، وأصرّوا أن في غزّة «لا يوجد مواطنون عاديون، فعندما نشاهد أي شخص، ببساطة نطلق عليه النار.. أطلقْ النار كي تقتل كل من تراه»، كانت القاعدة والأوامر.
بالتزامن مع ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية على لسان هؤلاء الجنود، تفاقمت قضية المهاجرين الإثيوبيين إلى إسرائيل؛ فبعد الكشف عن شريط صوّر اعتداءً عنيفًا من قبل رجال شرطة على شاب إثيوبي أعزل، وبدون أن يكون لذلك سبب أو داع، انفجرت صهاريج القهر الأسود واندفعت بموجة تذكّر بأخريات سبقتها في الماضي، وتكسرت على شواطئ وعود كاذبة من الساسة السادة، الذين زرعوا على الرمال كواكب للأفارقة الحالمين بالعسل الأبيض، فبلعها جوف الأرض، وبقي أبناء سبط الصحراء أقلّية تائهة في دهاليز الوطن الموعود، يتكبدون من حقيقة كونهم، الآخر المستضعف والمستحقر.
مباشرة مع اندلاع موجة الغضب، بدأنا نسمع عن قصص روى ضحاياها اليهود، كيف اعتدي عليهم بهمجية وعنصرية؛ كانت قواسم هذه الحكايا مشتركة؛ فالراوي يهودي أسود، لكنه بعين «ابن ليل» ما له في الأخوة عهد، ليس أكثر من «سوداني مقرف»، وبسبب أصله صار عرضة لتنكيل دائم من حرّاس النوادي الليلية الروس، ومن رجال الشرطة الذين لم يتردّدوا بتحريش كلابهم وتكسير عصيهم على أجساد ابتلتها السمرة.
لقد كنّا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، ومازلنا، بمثابة الواجهة الأمامية في تشكيلة «أكياس الرمل» التي على جنباتها تمرّنت سواعد العنصريين، وأفرغت عليها قبضاتهم، طيلة عقود، وجبات حقدها الأرعن؛ وللحقيقة، فأمثالنا مهيّأون لفهم ما يعتري تلك النفوس التي تهان بسبب أصلها وتداس كراماتها وحقوقها بسبب لونها، ولذلك، ورغم أن هؤلاء الإثيوبيين جاؤوا كطيور مهاجرة إلى عش أحلامنا، ويحاولون أحيانًا، باسم انتمائهم إلى يهودية غابرة، أن يمارسوا علينا وفي حلباتنا لعبة الأسياد، تجدنا، نحن أبناء الأقلية الصامدة، على استعداد للوقوف إلى جانبهم، ومن أجل مطالبهم بالمساواة، ووقف اضطهادهم العنصري من قبل إخوتهم في اليهودية، لأن هذا ما تمليه علينا إنسانيّتنا الحقة وأخلاق البشر المحبين للحياة، ولأن «الظلم في أي مكان هو تهديد للعدل في كل مكان»، كما استذكر ذلك، من قول لمارتن لوثر كنغ، النائب أيمن عودة في خطابه الأول في الكنيست. إن خطاب أيمن عودة في الكنيست جدير بمراجعة خاصة، فهو، من دون شك، وقف هناك وكان على يقين أن إسرائيل تمارس عنصريتها برسم فائض القوة والسطوة، وتسعى لتكريس احتلالها وتسلّطها على شعب آخر، برسم الطمع والكراهية وفائض خوف، ويتمادى في ساحاتها العنف، وتتفاقم الرذيلة والجريمة، لأن عنجهية قادتها قوّضت إمكانية إنشاء بنيان يقوم على قيم إنسانية أساسية، وأعمت عيونٓهم، فباتوا يؤمنون، كما آمن «آل كابونه» ورفاقه، أرباب المافيا الكبار، حين أكّدوا أنهم يستطيعون أن يحصلوا بالكلمة والمسدّس والرشاش على أكثر ممّا يمكنهم الحصول عليه بالحوار والكلمة والتفاهم!
لقد خاطب أيمن، في باكورته، كراهيتهم، كعاشق للحياة، يؤكد أنهم: مجانين إذا كانوا لا يستطيعون أن يفكّروا ويتغيّروا، ثمّ سما بروحه وجاور ذروتي عزة وكرامة صدّاحتين، ليؤكد أنّهم: متعصّبون وعنصريّون، إذا لم يختاروا أن يفكّروا ويتعظوا من التاريخ، وأنهى، بإنسانية غنّاء متحدّية القامع منهم والمقموع، وهو يحذرهم أنّهم: عبيد إذا لم يتجرأوا أن يفكّروا ويتحرّروا. لقد كان كلامه، كلام مقاوم لا يؤمن أن «العين بالعين»، ولذلك أومأ، حتى لمبغضيه، واستعرض رهانه على قلب مستقبل واسع قد نجعله نابضًا وجميلا، فما الماضي إلا دوامة، إذا تركناه يسيطر على حاضرنا ستمتصنا هاويته، ونتحوّل كلّنا إلى عميان.
«كالفجر كنتَ.. وأجمل من حلم.. فعسى البقية تأتي..»، كتب أحدهم لأيمن، وذهب يكش الندى عن وجه صباح أسيل.
أنهى الجندي قراءته، فمضيت إلى طريقي، بعد أن مد يده نحوي، وبحركة خالية من علامات استياء أعاد لي ما أخذ، فسمعته، وسط قهقهات الجنود، وبينهم كانت السمراء، التي جاءتنا من أفريقيا، تتلوّى ببهجة، يقول: «في الحقيقة، لم أفهم ما قرأت ولكن بعضنا، يا أستاذ، في الجيش، يختار ألا يفكّر، وبعضنا لا يجرؤ أن يفكّر».
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس