عندما يجري النهرُ غزيراً بمياهه، وعظيماً بفيضه، وعامراً في عطائه، وكثيراً في فيئه، وسابغاً في كرمه بجودٍ وسخاء، لا يسأل الناس عمن أجراه، ولا كيف من السماء قد نزل ماؤه، ولا ينسبون الفضل لغير الله الذي يزجي السحاب الثقال، ويفتح السماء بماءٍ منهمر، ويسيره بأمرٍ قد قُدر، إلى حيث يشاء من الأرض التي يريد، فلا نملك إلا أن نحمد سبحانه وتعالى، فهو الذي يكلأه بحفظه، ويرعاه بجميل عنايته، ويأمره بالمسير على أرضه، يشق الأرض ويخترق الجبال، وينبع من بين الصخر، ويسير هوناً على الأرض السهل، يحيي به الأرض بعد موتها، ويعيد إليها النماء والحياة، ويروي به عباده، ويسقي الدواب العطشى، ويعيد به دورة الحياة من جديد، وقد ظن الناس أن مياهه قد غارت، وجداوله قد جفت، وينابيعه في الأرض قد نضبت.
إنها قصة قافلة الوفاء الأوروبية لمن لم يعرفها أو لم يسمع عنها، قافلةٌ سيرها الله بأمره، وذللها بعنايته، ورعاها بفضله، وأمر بعضاً من عباده أن يكونوا من بين العاملين فيها، سخرهم سبحانه وتعالى بأمره، واستخدمهم لقدره، وجعلهم مفاتيح لخيره، فلبوا نداء الحق والواجب، وهم جمعٌ كريمٌ من المتطوعين المؤمنين بالعمل الإنساني، من أماكن قصيةٍ جاؤوا، ومن بلادٍ بعيدةٍ أتوا، عرباً ومسلمين، وأوروبيين ومسيحيين، اتفقوا على الهدف، وتعاونوا على الغاية، أمرهم الله فمضوا، وكلفهم فنفذوا، وائتمنهم فأخلصوا، وحفظهم فعادوا.
إنها قافلة الوفاء التي آمن بها الخيرون، وائتمنهم عليها الصادقون، ووثق بها المتبرعون من خيرة العرب والمسلمين، من أهل الغيرة على ديننا الحنيف، ومن أصحاب النخوة على إخوانهم وأهلهم أجمعين، من فلسطينيي سوريا عموماً وسكان مخيم اليرموك خصوصاً، ممن يواجهون الكارثة، ويعيشون المحنة، ويلاقون مصيراً صعباً نتيجة الحصار والقصف والتدمير والخراب، والحرمان والقسوة والمعاناة، في ظل الصمت الدولي والعربي المهين، إزاء مصيرهم المحتوم موتاً بسبب الجوع تارةً، وبسبب المرض والبرد تارةً أخرى.
لم تنل منهم الخطوب رغم خطورتها، ولم تفت في عضدهم الصعاب، ولم ترهبهم الوعود والتهديدات، ولم يجبرهم على القعود الصعاب والتحديات، فقد توكلوا على الله حق توكله، فحفظهم ورعاهم، ومن بين الأخطار أنجاهم، وقد ظن الكثيرون أنهم هلكى، وأن ما هم فيه مغامرة خطرة، ومجازفة كبيرة، وأن الموت ذبحاً أو قنصاً أو قصفاً ينتظرهم، ولكن من كان الله وليه فمن يعاديه، ومن تكفل الله برعايته، فمن ذا الذي ينال منه، ومن كانت خطواته لله فهو سبحانه وحده الذي يدله على الطريق، ويهديه إلى سواء السبيل.
قافلة الوفاء الأوروبية بدأت حملتها قديماً وما زالت، حملت الراية وتصدرت، وكانت حيث لم يكن أحد، وسبقت عندما لحق الكل وتنافس الجميع، وقد آمنت بمهمتها، وأدركت الواجب الملقى على كاهلها، فنهضت تجمع، وشمرت عن سواعدها تنظم، وانطلقت مراراً فما تأخرت ولا تقهقرت، ولا ترددت ولا جبنت، ولم تصغِ إلى المحذرين، الخائفين أو المنافسين، ونجحت في الدخول إلى مخيم اليرموك جديداً كما دخلته قديماً، وهو الذي كان وما زال كتلة لهب، وكرة نار تتدحرج، تحرق كل من اقترب منه، أو حاول الدخول إليه.
لكنها ثلةٌ مؤمنةٌ بالواجب، ولديها إحساس بعظم المعاناة، قررت التضحية، وانطلقت وهي تعتقد أن بعضها لن يعود، أو أن منهم من ينتظره خطرٌ عظيم، ولكن لسان حالهم كان يقول، كيف يستقيم لنا القعود وأهلنا يعانون، وكيف يطيب لنا المقام ويحلو لنا البقاء وشعبنا يحاصر، ويموت جوعاً وخوفاً، أو برداً ومرضاً، فكان الفلسطينيون في المخيمات ينتظرونهم، وفي مراكز الإيواء يسألون عنهم، وقد عهدوهم يحملون المساعدات، ويخففون الأوجاع، ويبلسمون الجراح، ويرسمون البسمات، ويعدون في كل مرةٍ بالمزيد.
كانت هذه هي القافلة الثانية عشر، التي تسيرها قافلة الوفاء الأوروبية إلى سوريا ، التي لم ينس القائمون عليها رغم رغد العيش وطيب المقام في أوروبا معاناة أهلهم في مخيم اليرموك وكافة مخيمات الفلسطينيين وتجمعاتهم، ولم يغمضوا أعينهم عن الصور المحزنة التي تنقل إلى العالم كله منه، وتعكس المآسي التي يوجهها اللاجئون، والمعاناة التي يلقاها المحاصرون.
لكن هذه القافلة لم تكن هذه المرة كسابقاتها أبداً، ولا تشبه غيرها بأي حالٍ، فهي أولاً تحدت الشائعات، وانتصرت على الشبهات، وصمدت أمام المراهنين على فشلها، والمتأملين في خذلانها، واستطاعت بتوفيق الله لها وصدق القائمين عليها، أن تدخل مخيم اليرموك دخول الفاتحين المؤيدين بنصر الله، فبددت ظلام المرجفين، وانتصرت على شائعات المبطلين، الذين لا يعملون ولا يحبون لغيرهم أن يعملوا، ولا ينجحون ولا يحمدون الله على نجاح غيرهم، وتمكنت من تقديم مئات الحصص الغذائية لمستحقيها، ووعدت بالمزيد لهم، حتى يأذن الله بالفرج، ويزيل الغمة، وينهي المحنة، ويعود الفلسطينيون إلى مخيماتهم وقد سادها الأمن والأمان.
قافلة الوفاء الأوروبية بما تقوم به اليوم من عملٍ رائدٍ، تقول للجميع بعالي الصوت وصريح العبارة، هلموا إلى الميدان، وتعالوا إلى الساحات والمخيمات، فهنا ينبغي أن نكون، وفي هذه المخيمات يجب علينا أن نتقدم، إذ لا مكان لساعٍ إلى الخدمة بعيداً عن المخيمات والتجمعات ومراكز الإيواء العامة، ولا قيمة لمتضامنٍ مع أهلنا بالكلمة بعيداً عنهم، وبالخطاب متعالياً عليهم، وبالتضامن دون أن يقدم لهم شيئاً، فمن أراد التضامن فإن عليه أن يلبس لأمته، ويعد عدته وينطلق، ولا يتذرع بالصعوبات، ولا يتعلل بالعراقيل، فالله سبحانه وتعالى يتكفل بمن انطلق، ويحفظ من نوى وعزم، وقدم وضحى.
فليس من تغبرت قدماه في أرض مخيم اليرموك، ومشى بين البيوت المهدمة والمباني المدمرة، وعلق في ثيابه رائحة البارود، ونام في العراء، وأكل مما يأكل الناس هناك، وتعرض لخطر القصف، ومشى في مسالك الخطر، كمن يتشدق في المؤتمرات والندوات، ويعلو صوته في الفنادق والردهات، ينتقد ويعترض، ويتهم ويعيب، ويستخف بالجهود ويقلل من حجم النجاح، وهو لا يعلم عن المخيم إلا اسمه، ولا يعرف من أهله إلا صورهم التي تعرض، وأسماءهم التي تذاع.
أيتها الجمعيات والمؤسسات الخيرية العاملة، اعلموا أن التوكل على الله مفتاح كل أزمة، والمدخل لكل بوابةٍ موصدة، وهو ميدان سباقٍ في الخير وتنافسٍ على العطاء، فمن كان لديه القدرة، وعنده الامكانية فلا يقصر، وعلى الله فليتوكل، يمض باسمه، وينفذ بقدره، ويقدم ما يستطيع في سبيله، فأهلنا في حاجةٍ إلى كل يدٍ تمتد إليهم بالعون والمساعدة، والله لن يغفر لمسؤولٍ قادرٍ ويقصر، أو لآخر يعيق ويعرقل، ويدس ويفسد، ويحسد ويغرض، فهذا وقتٌ لا ينبغي فيه غير التنافس، ولا يليق فيه غير العمل، ولا ينفع فيه شئٌ مثل الصدق.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 18/5/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]