قبل الإنتخابات الإسرائيلية في مارس 2015، راهن الرئيس عباس على سقوط رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" وحزبه، لفتح أفق تفاوضي جديد تزامناً مع رهانه على فجوة شخصية التي حصلت ما بين الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" قد تمهد لهذا السقوط، وتسعف الرئيس عباس بإنطلاقة مرحلة جديدة ومغامرات تفاوضية جديدة، بإعتبار المفاوضات خياراً إستراتيجياً وحيداً لا غنى عنه لضمان بقاء الرئيس عباس حاكماً للشعب الفلسطيني، وضامناً لإستمرار تمويل السلطة وإنقاذها من الإنهيار المالي الذي حذرت منه الأوساط الأمنية الإسرائيلية واستجابت له الحكومة الإسرائيلية.
سقط رهان عباس على تغيير "بنيامين نتنياهو" وجاءت الإنتخابات الإسرائيلية بحكومة يمينية ويمينية متطرفة يؤمن معظم وزرائها بضرورة ضم الضفة الغربية وطرد الفلسطينيين الناشطين سياسياً، إضافة إلى تكثيف عمليات الإستيطان والإستمرار في تهويد القدس وفصل غزة عن الضفة الغربية، ولديهم كومة من الإشتراطات والتهديدات التي ستمارس على القيادة الفلسطينية لقاء الإستمرار في الحصول على أموال الضرائب مخصوم منها مبالغ ليست بسيطة ومقرونة بعدم التوجه لمحكمة الجنايات الدولية وإستمرار قيام السلطة بوظيفتها الأمنية دون كسل أو تقصير.
ليس غريباً أن تأتي الإنتخابات الإسرائيلية بحكومة متطرفة من هذا النوع، فمنذ سنوات عديدة والشارع الإسرائيلي يسير بإتجاه التطرف والعنصرية تجاه الفلسطينيين، وتتراجع قوى اليسار واليسار الصهيوني لصالح قوى دينية وراديكالية تدعو لقتل وتهجير الفلسطينيين ولا تؤمن بخيارات التسوية والسلام، فالغريب هو موقف الرئيس عباس الذي لم يتغير رغم كل ما يجري، وحسر خياراته في المفاوضات أيّ كان شكلها ومضمونها ومرجعياتها، وحرصه على عدم إندلاع إنتفاضة شعبية تفقد السلطة وظيفتها الأمنية وتؤدي لإنهيارها إلى جانب إنهيار حلمه في الحكم الأبدي للشعب الفلسطيني وبقايا مؤسساته العاجزة عن تلبية أبسط حاجيات الشعب الفلسطيني.
في القدس مواجهات شبه يومية ضد المستوطنين وكل أشكال البطش التي تمارس بحق الفلسطينيين، وفي بقية أنحاء الضفة الغربية تسارع لعمليات النهب الإستيطاني والتعدي على أملاك المزارعين، ملاحقات ومداهمات يومية واعتقالات وحواجز عسكرية حوّلت حياة الشعب الفلسطيني إلى جحيم لا يطاق، بالرغم من ذلك يقوم الرئيس عباس بالدعوة مجدداً لعودة المفاوضات في خطاب النكبة قبل أيام، مسقطاً شرط وقف الإستيطان لقاء العودة إليها، متجاهلاً الموقف الإسرائيلي الذي لا يجد من وسائل الضغط ما يجبره على التفاوض كما حصل عقب انتفاضة الحجارة عام 1987، ومتجاهلاً موقف القوى السياسية ورأي الشعب من هذه المسألة التي أرهقت كل الفلسطينيين وساهمت في توفير غطاء على ما يفعله الإحتلال، ونشرت الإحباطات المتكررة في أوساط المجتمع الفلسطيني.
لا يعقل أن يستكين الشعب إلى خيار واحد في العلاقة مع الإحتلال، هذه ليست عقلانية ولا تمثل سوى حالة عجز دخلت فيها القيادة السياسية منذ أن جاء الرئيس عباس إلى الحكم حتى الآن، عجز عن إستكمال مهام التحرر الوطني حرصاً على الحكم والمال، وفشل في الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني وتحقيق المصالحة، ومصيبة في إدارة الموارد المالية للشعب الفلسطيني التي تتعرض للنهب على أيدى عصابة من الشركات الإحتكارية تدّعي أنها رأسمال مال وطني، مستفيدة من غياب الرقابة الشعبية وتعطّل المجلس التشريعي، وفشل في تحقيق الديمقراطية من خلال الممارسة والإنتخابات، وتعدي خطير على مجمل الحقوق والحريات السياسية والإقتصادية في مجتمع يرزح معظم سكانه تحت خط الفقر والفقر المدقع، ولا يجد معظم شبابه فرصة واحدة للعمل والعيش الكريم.
العودة للمفاوضات في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية وفي ظل الواقع الفلسطيني الواهن والعربي المنشغل، وتجاهل الإستحقاقات الداخلية الفلسطينية إنتحار سياسي يمهد لفرض الإستسلام على الشعب الفلسطيني، هو أمر يرفضه العقل وتحدثت عنه التجارب، حتى إن جاء من خلال مبادرة فرنسية تعيد إنتاج أفكار "جون كيري" التي أكل عليها الزمن وشرب.
شباب القدس المنتفضين يحملون المشاعل لتنير عقل الرئيس عباس، يؤشرون لوجهة الشعب الفلسطيني الرافض لعلاقة الخضوع للإحتلال وممارسات وإشتراطات الإحتلال، يمهدون لإنتفاضة ضد الإستيطان والجدار والتنسيق الأمني، هم جزء من شعب سئم كافة أشكال التعدي على أحلامه ومصادرة حقوقه، جزء من شعب رأى في السلطة عوناً على الظلم وليس كرباجاً جديداً يشارك الإحتلال القمع والمداهمات والبلطجة وفرض الضرائب والجزية ونهب المال العام وخلق المزيد من الأزمات لتعطيل كل فرص التحرر والتطور.
آلاف المشردين ما زالوا في إنتظار الإعمار والعودة إلى بيوتهم، آلاف الخريجين منذ سنوات بإنتظار فرصة عمل، آلاف الفقراء يبحثون سبل العيش الكريم، وكل الشعب بإنتظار مصالحة حقيقية وطنية شاملة تزيل ركام مرحلة مع إزالة ركام البيوت المهدمة وتؤسس لنظام سياسي قادر على حماية الفلسطينيين في اليرموك وكل مكان وجاهز للمواجهة والمفاوضات.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]