يتناقض المعنى في الرغبة والإجبار وتتفق كلتا الكلمتين في شرح حال سياسية تعيشها المنطقة العربية برمتها؛ فأهداف تبعثرت ومبادئ سقطت وأخرى تنازع وغيرها صامد حينما دخلت كلها في ممرات إجبارية جعلت الرغبة هناك بمقاسات المرحلة والظروف حتى تحولت شعارات من غايات إلى وسيلة وحيدة حينما أحرق البعض سفنه وقال لأنصاره التبعية من أمامكم وبحر الكرامة من خلفكم.
وسارت الأحداث منذ أن بدأت الثورات المسروقة بفكرها تارة وبتغيير مسارها أيضا في إطار الرغبة الإجبارية تارة أخرى، فبكاء ودموع وفرحة وصرخة كلها تناقضات يعيشها الفلسطيني والعربي والمسلم في العالم في دوامة تصل بمن يسير فيها تحت حب الإكراه إلى غاية يكتشف فيما بعد أنه كان وسيلة للوصول إليها؛ فهو المصفق في ترح والباكي في فرح "أطرش في الزفة".
بعد الحديث برمزية المواقف والمعاني في مقدمة المقال نعرج على بعض الأمثلة من الواقع الأليم الذي يراد له أن يصبح حقيقة الوهم؛ فحماس التي تحارب الاحتلال منذ عقود حولها العدل الظالم في انقلاب السيسي إلى إرهاب كما أنها خيانة 30 حزيران حينما سميت وطنية، هذا ليس غريبا في تحول ضمن الرغبة الإجبارية وتغيير المسارات.
هناك في سوريا دماء تسيل على يد الجزار بشار أسمتها بعض التنظيمات الفلسطينية مؤامرة على دكتاتور الحرية الأسد، ووضعوا يدهم في يده على دماء الفلسطينيين قبل السوريين فغاية باتت تلك المصالح بعد أن أشبعوا العالم حديثا عن أنها وسيلة للحفاظ على الحق الفلسطيني، ولأنهم استخدموا الحرية والمقاومة في مكان غير مناسب في الدوائر المغلقة طلب منهم الكثير خلال الأيام الماضية فغضبوا غضب العشمية.
"الشهيد الحي" مصطلح يستخدمه الفلسطينيون وكثر تداوله في انتفاضة الأقصى عندما كان الإعلام التعبوي المقاوم ينقل وصايا الاستشهاديين لترهيب الاحتلال؛ كما أنها قناعة بأن الشهيد حي عند الله عز وجل، غير أنه خرج علينا في الآونة الأخيرة قضاء الفضاء في مصر حينما يحكم بالإعدام على الشهداء؛ هي حال التناقض التي تحول فيها الشهيد الحي عند ربه إلى متهم معدم لدى الانقلاب في مصر!!.
لا يمكن للمبادئ أن تتغير بتغير الأجواء أو الحدود؛ فالثلوج والمطر والحر والبحار والمحيطات والحرب والسلم كلها أجواء تحيط بالمبادئ والأفكار فلا تغير فيها؛ إلا أن واقعا عربيا باتت فيه الأفكار والمبادئ عبارة عن "بسطات" تبحث عن معجب في هذه البضاعة للشراء منها.
جزئية أخرى في الوحدة الوطنية الفلسطينية وهي شراكة التفرد التي تقودها حركة فتح في كل المؤسسات فأبرز مثال ما تعرضت له حركة حماس في انتخابات عام 2006 في المجلس التشريعي من محاربة رغم أنها قالت تعالوا إلى وحدة وطنية، غير أن فتح أدخلت القضية الفلسطينية في نفق الاتقسام لتعزيز شعار شراكة التفرد أي "أنا ومن تحتي".
انعكس ذلك على الجامعات حتى بات التمثيل النسبي مطلب الكتل الطلابية من باب "كف شر الأجهزة الأمنية عن أي تشكيل ديمقراطي " حتى يدوم العمل النقابي؛ فبعد أن كان غاية تحول بسبب ممارسات حركة فتح وأذرعها إلى غاية ووسيلة لحماية الهيكل المنتخب ومع ذلك ما زال الثأر التصالحي قائم.
انتفاضة التخدير هي شكل آخر من أشكال التناقضات العربية فتشكيل لجان شعبية للمقاومة وتنظيم مسيرات هي عنوان كبير لانتفاضة غيب هدفها الأساسي التاريخي وهو دحر الاحتلال وإرباكه فإذا بها انتفاضة تخدير وبالوكالة هدفها تمرير مشاريع التهويد والاستيطان وحينما تسأل ماذا أنجزتم يقولون لك "سلمية سلمية سلمية"، غريب حالهم حينما فازت حماس في الانتخابات لم نسمع عن مسيرات سلمية لهم فإذا بها مع الاحتلال سلمية وضد المقاومة الحقيقية وحماس دموية.
نكتفي بهذه الأمثلة التي تعكس حالا يراد أن يكرس في نتائجه النهائية ما طرح أصلا "الفوضى المنظمة الخلاقة" من قبل الأمريكان، ليس مهما كيف بدأت القضية ولا مهم أيضا كيف سارت ولكن الأهم أن نغير جميعا القواعد التي أجبرت عليها الأمة لتلغى التناقضات وتوحد الإشارات الموصلة إلى خط النجاة وحقيقة الرغبة والانتفاضة والتحرر، لأن ما سبق كله في إطار الإحباط بعدة وسائل دفعت في سبيلها المليارات ولمعت دول وتنظيمات منفرة خبيثة وفتحت حدود لتزيد الحصار وأغلقت أبواب لتذلل الأفكار، فليس صحيحا ما كان يطرح قديما أن الباب إذا فتح فرجت وأن الحدود إذا أغلقت ضاقت؛ فاللعب على التناقضات في السنوات الأخيرة من قبل الأطراف والجهات واللاعبين كشفت الكثير من الأكاذيب مرت عليها عقود وهي تسمى حقائق.
بقلم/ محمد القيق