قبل عام اتجهت الأنظار نحو حكومة التوافق بشوق وعناية، حتى ولدت من رحم المعاناة والألم، وأعرب الناس عن خالص إعجابهم وسرورهم، وبعثوا بابتهاجهم وتهانيهم. وبهذه المناسبة كتبت مقالاً وقتئذ بعنوان: (حكومة إنقاذ وليست حكومة توافق)، قلت فيه: يروق لي تسمية الحكومة المزمع تشكيلها عقب اتفاق المصالحة الفلسطينية الموقع بمدينة غزة في 23 نيسان/ أبريل 2014م أنها: (حكومة إنقاذ) بدلاً من: (حكومة توافق)، وهي التي جرى السياسيون على تسميتها بأنها ستحاول إنقاذ اللحظة الأخيرة من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية قبل الوصول إلى منطقة السكون العميق، وتُسد رياح الانهيار ومزالق القلاقل السياسية عن طرفي الانقسام (فتح وحماس)، وتقدم لهما طوق إنقاذ، وتبعث فيهما الحياة من جديد، بحيث يرتدي كلاهما رداءً متجاوباً ومنسجماً مع ديناميكية التغيير، وينتقلان من نهايات الانقسام إلى إطلالات الوحدة والمصالحة، وتكون لفلسطين - قلب العالم وفردوسها الأرضي، ومهد الأديان الكبرى - مكانة صدق، حكومة إنقاذ تنشد للفلسطينيين وضعاً غير وضعهم في ظل الانقسام، ويرون فيها لوناً جديداً يُبشر لعهد مليء بالنشاط والحيوية، ويضيء الطريق من جديد.
وما من شك، أن حكومة إنقاذ مثل هذه ستحمل على أكتافها حملاً ثقيلاً من موروث الماضي، وهو ما ينوء به أولو العزم من القادة على حمله في إصلاح الأوضاع التي سادت بعد أحداث عام 2007م، وهذا يتطلب مجهوداً جباراً متواصلاً، حيث يعلق أبناء الشعب الفلسطيني على تلك الحكومة الكثير من الآمال، ويتوسمون فيها الخير لتكون قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه الحكم، حيث يقتضي ذلك المسؤولية الكاملة عن الشعب بكل طبقاته واتجاهاته، ومن أقصى الوطن إلى أدناه، وتوفير كل مستلزمات الحياة الكريمة والسهلة للمتعبين في الأرض الذين يتصبب منهم العرق والشقاء بالتخفيف عن آلامهم، والمساهمة بقسط وافر في إصلاح الاقتصاد الفلسطيني الذي أُصيب بما يشبه الشلل بعد تفشي ظاهرة البطالة إلى درجة فاقت كل الحدود، وهبوط مستوى المعيشة هبوطاً ملحوظاً، وازدياد حدة الفقر إلى درجة سيئة، واشتداد الغلاء.
ويتطلع الفلسطينيون أيضاً إلى حكومة إنقاذ مثل هذه تمتلك الشجاعة والقوة لحل أزماتهم المستشرية، كأزمة الكهرباء والمعابر، وفي نفس الوقت تخفف من معاناة حامل الجواز الفلسطيني الذي كان ذات يوم جواز مرور، فإذا به جواز انتظار في كل أجنحة الانتظار في العالم، والبحث عن مصير الغاز الفلسطيني المُكتشف في شواطئ فلسطين.
يريدون حكومة تتجه أنظارها إلى ترسيخ الحرية في كل صورها ومعانيها، تنمو فيها حرية الفرد، وتعلو فيها الديمقراطية، وتوطد فيها أركان الحكم الدستوري، من خلال التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، وكذلك إلى الاهتمام بالتعليم والعناية بأمره، ومراجعة شاملة للمناهج التعليمية التي تقدم في مدارس فلسطين مراجعة تلبي حاجة الشعب الفلسطيني لصنوف التعليم المختلفة، وحكومة تعمل بجدية في مضمار النهوض في العلاقات المجتمعية، وإنماء الفضائل العامة والحث عليها، وإعادة أواصر النسيج الاجتماعي التي فككها الانقسام، والأخذ بيد الشعب نحو مدارج الرقي.
ويقع على عاتق هكذا حكومة أن تبحث عن بداية جديدة قوامها مبدأ الباب المفتوح والشفافية، وتوجيه الأنظار إلى سياسة الزهد والتقشف، وعدم الانغماس في تنفيذ مآربها الخاصة، بأن تتخذ من الوزارة وسيلة للمال والجاه، أو ذريعة للمفاخرة، والسير في نشر الإصلاح المطلوب، والمبادرة إلى أداء واجبها المنوط بها تجاه بني قومها، وتقديم كل العون لانتشال المعوزين في فلسطين، ولا يكون أهل الوطن الواحد أمة إلا إذا ضاقت هوة الفروق بين أفرادها، واتسعت دائرة المشابهات بينهم، فآن الأوان للناس أن يستريحوا من تداعيات الانقسام التي حلت بهم، وكادت أن تفتك بهم.
وفي المقابل، حريٌّ على كل مواطن فلسطيني أن يتقاسم شرف الجهاد في بناء الوطن وإصلاحه، بأن يشترك كل فرد في حكومة بلاده اشتراكاً تاماً كاملاً في صنع القرار، وتحديد مركز الحاكم والمحكوم، وهذا ما نسميه بسلطة الأمة.
إنها ستكون عندئذ حكومة إنقاذ بكل معانيها وأبعادها، وستنال شرف وضع الحجر الأساسي في صرح الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتلغي من ذاكرتها مرحلة كان خلالها الإنسان الفلسطيني الذي ظل غارقاً في وهدة البؤس، بطلُها الحقيقي الرجل الباني، الرجل العمّار الذي يحاول أن يبني وطناً للجميع، وإنَّ صاحب التوقيع في نهاية الأمر هو التاريخ الذي تخطه أيدي الصادقين.
وبعد مرور عام على تشكيل تلك الحكومة، يمكن القول: إن حكومة التوافق أُفشِلت في حل مشاكل الناس التي بلغت ذروتها في هذه الأيام، ولم تمتلك الشجاعة للحديث عن آلامهم، حتى وصل حالهم إلى ما نراهم عليه اليوم، دون أحلام، ودون آمال على وجه الضبط، وكأن الناس في قفص من حديد، وباتت الحكومة غير قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه وجودها في الحكم، بما يحسن خدمة الوطن، ويكفل لأهله العزة والكرامة، وفاقاً مع قول عنترة العبسي:
لا تسقنـي ماء الحياة بذلّة
بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهـــنّم
وجــهنّــم بالعـــزّ أطيـــــــــــب مـنـــــزل
وبدأ القلق يساور أهل غزة على مستقبلهم في ظل الحكومة التي صفقوا فرحا لقيامها، فالإنسان عبد الإحسان، وأسوأ أنواع الظلم هو الادعاء بأن هناك عدلاً، والحكومة وجدت من أجل الشعب، لا الشعب من أجل الحكومة، ولعلَّ من الشواهد التي ساقها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قوله: (اجعلوا الناس عندكم في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، وأيّما عامل ظلم أحداً فبلغتني مظلمته فلم أغيّرها فأنا ظلمته)، فالمسؤول الحقيقي هو صديق الساعات الصعبة، ولذلك كله، أتمثل قول كليمنصو وجملته الشهيرة: (أنا ضد الحكومات، بما فيها حكومتي!)، وكذلك وفاقاً مع قول الشاعر العربي:
إذا لم يكن للمرء في حكومة امرئ
نصيب ولا حـــــظّ تمنّى زوالهـــــــــا
وما ذاك من بغض لهــا غير أنّـــــه
يرجّي سواها فهو يبغي انتقالها
للأسف، كان ميلاد حكومة التوافق يبدو لي ولغيري مثل أحلام يتمنى المرء أن يعيشها واقعاً ملموساً، ولو بقيت الأمور على حالها، فنحن قادمون صوب الانهيار!!
بقلم/ نعمان فيصل