تبدو العودة إلى ما حدث قبل نصف قرن من كابوس لم تستفق الأمة العربية منه، بعد كل هذا الوقت الطويل، ما يشبه العبث في جرح غائر لم يندمل برغم الزمن، ولكن هذه العودة ضرورية لأن القرار العربي بعد كل هذا التاريخ يعود لنقطة الصفر، مطالباً بما كان يعتبره هزيمة للأمة عندما احتلت إسرائيل مساحة 78% من فلسطين التاريخية، وتتبدى هذه الضرورة أكثر ونحن نقف على مسافة من تلك الذكرى الكئيبة، لنعرف أن الشعب الفلسطيني دفع عشرات آلاف الشهداء على امتداد ثورته الحديثة، محاولاً استعادة هذا الجزء الذي كان بيد العرب، قانعاً هذا الشعب أو خانعاً.
فقد تحول هذا الذي كان ممكناً إلى حلم لدى الفلسطينيين بعد كل هذه التجربة الطويلة، وعلى وشك أن يتلاشى؛ لأن ما حققته إسرائيل أبعد من طموحاتها وأحلامها حين اكتشفت اكتمال سيطرتها على الضفة الغربية أمام صمت العالم وتجاهل العرب لم تعد مستعدة لإعادتها .. تماماً كما حدث صبيحة انتصارها عام 67 فقد كان قادة إسرائيل وجنرالاتها مأخوذين بنشوة اللحظة، غير قادرين على استيعاب حجم ما تحقق، وعندما أفاقوا من صدمة النصر هالهم أن «انتصارهم أضخم من أن يكون حقيقياً» كما قال رئيس أركان الحرب حينها إسحق رابين.
فقد احتلت إسرائيل أضعاف المساحة التي احتلتها عام 48، وإذا كانت عند إقامتها اعتدت على أراضي دولة واحدة هي فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني؛ ففي حزيران 67 استولت على أراضٍ من ثلاث دول عربية كانت مستقلة في قرارها وجيوشها.
فلا تقل كارثة 67 عن كارثة 48 فقد تبددت حينها أمال العرب بهزيمة إسرائيل، بل إن إسرائيل رسخت نفسها كدولة قوية، بعد أن ظل ذلك مدعاة للشك طوال عقدين، ليس لدى الفلسطينيين والعرب فحسب، بل حتى بالنسبة لليهود والعالم، الذين لم يحزموا حقائبهم فور إقامة الدولة، ولكن بعد تلك الحرب أصبحوا أكثر يقيناً أن هناك جيشاً قادراً على حمايتهم ودولة باقية.
أثير، سابقاً، جدل حول تسميتها بالنكسة على الرغم من ضخامة الكارثة التي تجاوزت بكثير من المقاييس سواء من حيث بقاء الدولة أو انكسار الحلم الفلسطيني أو من حيث ضياع ما تبقى من فلسطين والجولان وسيناء، فلماذا الأولى النكبة والثانية تم تخفيف وقعها سميت بـ «النكسة»؟ لقد قدم بعض الكتاب المصريين تفسيراً لذلك، هو أن من أطلق عليها لقب النكسة هو الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الذي كان أحد مستشاري الرئيس جمال عبد الناصر، ولأنه من دائرة القرار ويتحمل المسؤولية عمد إلى تخفيف وطأة الكارثة.
لكن المثير بالعودة إلى تلك الهزيمة هو الأجواء التي سبقتها، والتي كشفتها جملة من الوثائق الإسرائيلية ومحاضر الاجتماعات التي أفرجت عنها إسرائيل، نهاية تسعينيات القرن الماضي، بعد مرور ثلاثة عقود على الحرب.
ففي الوثائق ما يكشف عن المقدمات التي أفضت إلى النتائج، باعتبار أن سياقات الأحداث في حركة التاريخ مترابطة إلى الحد الذي يكفي أن تقرأ أحد أجزائه لتطل على الآخر، فالماضي هو مقدمة الحاضر والحاضر هو امتداد لهذا الماضي، وكلاهما يشكلان مفتاح وخريطة المستقبل.
إن من يقرؤون الحاضر باندهاش مما حدث أو يحدث في الإقليم، بالتأكيد تعوزهم الثقافة لقراءة الماضي القريب والبعيد، والذين كان لديهم أمل في بدايات اضطراب المنطقة والدول المحيطة بما عرف بالربيع العربي، لم تكن لديهم القدرة على الربط بين ماضٍ شكل بكل تفاصيله وصراعاته وخياناته وانكساراته ومستوى ثقافته مقدمة لحاضر دام هو امتداد طبيعي لذلك الإرث، وما يمكن أن يخبئه الأول والثاني لمستقبل المنطقة التي تتفتت بشكل يثير الحزن بدرجة أكبر حتى من النكبة والنكسة في عواصم، انعقد عليها الأمل ذات يوم لإزالة آثار العدوان، أو هكذا رفعت شعارها، لتجد نفسها على وشك أن تزال من الخارطة، هكذا حصل لبغداد ودمشق وكاد يحدث لمصر ..
إن العودة للوثائق وهي كثيرة، بالرغم من أن الكثير أيضاً لم ينشر بعد، وما زال حبيساً في ملفات الأمن الإسرائيلي، تحت تصنيف سري للغاية، لكن ما تيسر يمكن أن يغطي الكثير من الخفايا التي تبرر أو تعترف بأجزاء من أسباب الهزيمة المذلة، وجوانب الضعف لدى الدول والجيوش العربية، وعلى الجانب الآخر عوامل القوة لدى الإسرائيلي ومنها:
1- أن إسرائيل اتخذت قرار الحرب مع نهايات عام 66، وأكثر من وثيقة اجتماع تشير إلى ذلك، بعد أن تمكنت من تصنيع القنبلة النووية التي تضمن حسم الحرب لصالحها إن اضطرت لاستعمالها، وهذا أنجزته خلال عقد ونصف منذ اتخاذ القرار عام 49، فيما كان العرب مشغولين بانقلابات وصراع سلطة.
2- عندما كان النقاش صاخباً في دوائر المؤسسة الإسرائيلية وهي تناقش قرار الحرب وتحدد الأهداف والوسائل، فمثلاً، كان مصطلح اصطياد مصر بـ»الرمح»، وسورية بـ»الشبكة»، أي أن المطلوب أن تجرح مصر وتنزف ..
من يقرأ الوثائق يجد قدراً كبيراً من الاستخفاف بالجيوش العربية وثقة أكبر بالنفس وبالجيش الإسرائيلي، فمنذ كانون الأول 66، كانت النقاشات تتركز ليس على «هل»، بل على «متى» و»كيف»، وفي الوقت الذي كانت تعتبر المؤسسة أن جيش إسرائيل قادر على الانتصار بلا شك، كانت تعرف أن مخازن السلاح الروسية مفتوحة بالمقابل للجيوش العربية، مثل جيشها الذي فتحت له مخازن أخرى، وقد ثبت أن لذلك الاستهتار ولتلك الثقة ما يؤكدهما.
3- قالت الوثائق: إن اثنين من الزعماء العرب كانا ينتظران فرصة القضاء على الجيش المصري بعد استنزافه في اليمن، كانت قيادات إسرائيل السياسية والعسكرية تدير خلافاتها وفقاً لأصول المؤسسة وبدافع الحرص على الدولة أو ما تسميه «الأمة اليهودية»، فيما الأمة العربية تطعن بعضها من الظهر.
4- إن هناك قدراً كبيراً من الجهل لدى العرب في إدارة معاركهم وأجهزة دولهم وحتى تحليل المعلومة والعلاقات الخارجية، فيما على الجانب الآخر قدر من الدهاء أدارت به إسرائيل مقدمات حربها، بدءاً من جهوزية الجيش وأجهزة الأمن وحتى الصحافة، وصولاً لتغيير الموقف الأميركي الذي كان يرفع بطاقة حمراء في وجه إسرائيل، حتى لا تقوم بشن عدوان إلى تغييره للون الأخضر وتغطيته حتى، وكذلك الانتقال السلس من الغطاء الفرنسي للغطاء الأميركي.
العالم العربي اليوم ليس أفضل حالاً بعد كل هذا الزمن الطويل من الانكسار، لكن اللافت أن الجيوش العربية يتم اصطيادها الآن ليس بالرمح أو بالشبكة ولكن بالسيوف وبدعم من دول عربية أخرى ..
الجيش العراقي تفكك والجيش السوري ينزف بشدة فيما الجيش المصري يستدرج في رمال سيناء، هذه كانت أحد تقديرات القوة الإسرائيلية نهاية العام الماضي، وهي تبشر بعوامل القوة الإسرائيلية مطلع العام الجديد في تقرير الأمن السنوي.
إذا كانت المرحلة، التي سبقت حزيران، مشكوكة بالضعف العربي، الآن نحن أمام انكشاف خطير بعد عملية تفكيك الدول والجيوش، هذا أكبر مما أرادت إسرائيل، أو كما قال رابين، ذات يوم حزيراني كئيب وهو يحتفل بالنصر: too good to be true، شيء لا يصدق .. إنها النكبة الثالثة..!
بقلم/ أكرم عطا الله