معان عميقة لزيارة البطريرك الراعي

بقلم: نعيم إبراهيم

حل البطريرك الماروني ضيفاً كبيراً على سورية في زيارة هي الثانية له منذ بداية الأزمة، حيث كانت الأولى في التاسع من شباط 2013 للمشاركة في حفل تنصيب بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي.

دمشق التي ترحب دائماً بكل من يناصر الحق ويقف في وجه الظلم أياً كان منبعه فتحت صدرها من جديد للراعي الذي أكد في أكثر من مناسبة موقفه الثابت والداعي إلى وقف كل أشكال الحرب الإرهابية التي تتعرض لها سورية، وإيقاف تقديم السلاح والدعم المالي للإرهابيين.

كما أن الزيارة تعكس التقارب والتعاون الحاصل بين الكنائس المسيحية في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها المسيحيون في المنطقة، وفي هذه المناسبة ينبغي تأكيد وحدة الجميع مسيحيين ومسلمين في خوض معركة المصير التي فرضت على سورية والدول العربية كافة.

زيارة الراعي رعوية وكنسية، تضمنت في شقها الرعوي تفقد أبرشية الموارنة في دمشق والاحتفال بالصلاة إلى جانب أبناء الرعية، إضافة إلى تدشين المركز الاجتماعي الماروني التابع للمطرانية. وفي شقها الكنسي الآخر تلبية لدعوة بطريرك الروم الارثوذكس يوحنا العاشر يازجي لتدشين مقر جديد للبطريركية الأرثوذكسية، إضافة إلى تلبية دعوة أخرى من بطريرك السريان الأرثوذكس مار أفرام البستاني للمشاركة في افتتاح سينودس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وفق مصادر مقربة من الراعي.

وكما سلف فإن الزيارة تعكس التقارب والتعاون الحاصل بين الكنائس المسيحية في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها المسيحيون في المنطقة حيث يحاول الأعداء على مختلف مشاربهم تنفيذ مخطط تهجير المسيحيين من سورية التي عرفت بأن نحو 10 بالمئة من سكانها من الطوائف المسيحية المختلفة أي ما يعادل نحو مليوني مواطن سوري، يتعرضون لحرب نفسية وإرهاب لحملهم على ترك أرضهم وبلدهم. الشواهد كثيرة على ذلك تبدأ بحلب ولا تنتهي بمعلولا وكلنا لمسنا كيف حدث ويحدث ذلك.

وتعرض عدد من رجال الدين المسيحيين خلال سنوات الأزمة لحوادث قتل، كما خطف آخرون أبرزهم مطرانا حلب للروم الأرثوذكس بولس يازجي وللسريان الأرثوذكس يوحنا إبراهيم، اللذان خطفا على يد الإرهابيين في 22 نيسان 2013 قرب حلب، ولا يزال مصيرهما مجهولاً.

عبر التاريخ عاش المسيحيون متفاهمين مع كل مكونات المجتمع السوري في شكل أهلي وسلمي، وهذه أهم وأقوى نقطة في شخصيتهم ووجودهم الحضاري.

ولهذا يمكن فهم مغزى ما قاله البطريرك الراعي في وقت سابق عن تفهمه لموقف الرئيس بشار الأسد وعن خشيته في الوقت ذاته من مرحلة انتقالية في سورية قد تشكل تهديدا لمسيحيي الشرق. وعبرعن أمله بأن يتم إعطاء المزيد من الفرص للإصلاحات السياسية التي بدأها الرئيس الأسد. وكان موضوعيا في ذلك «فالرئيس الأسد بدأ بسلسلة من الإصلاحات السياسية ومن المفترض إعطاء المزيد من الفرص للحوار الداخلي ومزيد من الفرص لدعم الإصلاحات اللازمة وأيضاً تفادي أعمال العنف والحرب».

وقال الراعي: إن ما يهمنا في لبنان هو أن تعيش سورية بسلام وحسن الجيرة مؤكداً أن المخاوف كثيرة لما يحصل في المنطقة وصورة العراق ماثلة أمامنا، مشدداً على أن الدول الغربية لايهمها إلا مصالح إسرائيل وما يحصل من تفتيت للدول العربية هو لمصلحة «إسرائيل». لا شك أن هذا الموقف هو موقف مسؤول وعميق ويعبر عن رؤية فكرية ووطنية وسياسية متوازنة ومسؤولة ومنسجمة مع موقف الكنيسة التي يمثلها الراعي في مواجهة المؤامرة التي تستهدف المنطقة برمتها والأرجح أنه يعبر أيضاً عن رأي الفاتيكان.

في هذا السياق يمكن فهم إشارة القاضي في المحكمة الكنسية المارونية في دمشق الأب مارون توما إلى أن زيارة غبطة البطريرك بشارة الراعي للأبرشيات المارونية في العالم تعدّ ترسيخا لانتشار هذه الكنيسة العريقة في القدم في العالم لكونه بطريرك أنطاكية وسائر المشرق لهذه الكنيسة. وتأتي أهمية هذه الزيارة لكون سورية هي المهد الذي انطلقت منه الكنيسة المارونية مع القديس مارون وتلاميذه في منطقة براد شمال حلب ومنها بدأ انتشار الكنيسة المارونية من سورية إلى لبنان وإلى كل العالم، فسورية هي مهد الحضارات والثقافات وأرض القداسة، ولكون دمشق هي المدينة التي انطلق منها القديس بولس في بشارته ليسوع المسيح إلى كل العالم، فهذه الزيارة على خطا القديس بولس هي زيارة بشارة بالسلام والرجاء المسيحي لمستقبل أفضل لسورية وتثبيت المسيحيين في هذه الأرض المقدسة التي أعطت قديسين وشهداء إيمان أمثال الشهداء «المسابكيين» أبناء دمشق الذين استشهدوا على أيدي العثمانيين عام 1860م، وهي الآن تقدم شهداء من مختلف مكوناتها فأصبح الدم السوري دماً واحداً مسكوباً على أرضها المقدسة. وأضاف الأب توما: لهذا كله تعد هذه الزيارة زيارة بالدرجة الأولى لإعادة بث الأمل والرجاء في قلب كل السوريين من دون استثناء وللاستماع إلى هموم الناس ومشكلاتهم والصعوبات التي يمرون بها، آملين أن تكون هذه الزيارة خطوة باتجاه السلام في بلدنا الحبيب ومعلنين «مبارك الآتي باسم الرب» غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى.

اليوم يشد الراعي أزر المسيحيين في محنتهم وتثبيتهم بأرضهم ويؤكد الوحدة الوطنية في بلدهم سورية وعلى المصير الواحد للسوريين كافة.

بقلم/ نعيم إبراهيم