جاء الانقسام ليعقد حيثيات القضية الفلسطينية، ويدخلها في حالة من الجمود السلبي، لم تصل إليه من قبل. ورغم أنه من الصعب تبرأة الفلسطينيين مما وصل إليه حال قضيتهم بفعل إنقسامهم، إلا أن أصابع الاتهام توجه مباشرة إلى الاحتلال الاسرائيلي الذي لعب دوراً جوهرياً في حدوث ذلك الانقسام. بل لعله من الممكن القول أن محاولات الاحتلال التي جاءت على مدار أكثر من ثلاثة عقود بهدف تأجيج حدة الصراع الفلسطيني، نجحت في تحقيق نتائج مبهره وقد تكون قد تعدت طموحاتها بحدوث الانقسام. ومن الصعب الخوض في موضوع الانقسام في سياق منفصل عن عدد من المحددات التي رتبها أو ساهم الاحتلال في ترتيبها، فشكلت مجتمعة منظومة متسقة أدت إلى حدوث الانقسام. كما لا يمكن فصل الانقسام عن تطور الصراع الفلسطيني، والذي سعى الاحتلال لتأجيجه منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بعد تصاعد مكانة وشعبية منظمة التحرير التي مثلت الفلسطينيين شرعياً وقادت مقاومتهم عملياً، بهدف حرف الفسطينيين عن مقاومة الاحتلال.
شكل الانقسام الفلسطيني غاية إسرائيلية كشفت عنها وثيقة صدرت عن مركز توليدو الدولي للسلام في نهاية عام 2004، والتي لم يتم تداولها أو إنتشارها بشكل واسع. وظهرت تلك الوثيقة بعد إقرار حكومة الاحتلال الخطة المعدلة لفك الارتباط مع قطاع غزة بستة أشهر (يونيو 2004). وجاءت تلك الوثيقة كمحصلة لثلاث ورشات عمل، عقدت ما بين شهري إبريل ويونيو من نفس العام في مدريد ولندن وإسبانيا، بدعوة من قبل (شلومو بن عامي) وزير الخارجية الاسرائيلي السابق ونائب رئيس ذلك المركز، وباضطلاع من قبل (إرييل شارون) رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك. وتقوم تلك الوثيقة على أساس إقامة إدارة إنتقالية فلسطينية منزوعة السلاح في قطاع غزة بعد إنسحاب قوات الاحتلال منه، لا ترتبط بالسلطة أو بمنظمة التحرير، وتمارس السيادة باعتراف دولي يصدر عن مجلس الامن، وتضم ممثلين عن مختلف القوى السياسية من داخل المنظمة وخارجها بما فيها القوى الاسلامية، بعد إلتزامها بنبذ العنف والاعتراف باسرائيل. لم تغفل تلك الوثيقة التأكيد على الدور المصري في مساعدة الادارة الانتقالية لانجاز وظائفها، حيث إعتبرت أن أهم تلك الوظائف بالاضافة إلى إدارة شؤون القطاع تجريد المليشيات من السلاح، ومنع أي تهديد لاسرائيل وحماية حدودها.
بينت تلك الوثيقة مساعي إسرائيل لفصل القطاع عن الضفة الغربية، وإنشاء سلطة فلسطينية في القطاع موازية لتلك الموجودة في رام الله، وضم المعارضة الاسلامية في إطارها، بعد قبولها بالشروط التي أقرت بها المنظمة. ورغم أن إسرائيل لم تنجح في تنفيذ التوصيات بالطريقة التي عرضتها الوثيقة، إلا أنها نجحت في تحقيقها بطرق أخرى. فخوض الاسلاميين للانتخابات سمح لهم بالمشاركة بالسلطة، وولد الصراع على السلطة الانقسام، فظهرت سلطتان منفصلتان أحدهما في القطاع والاخرى في الضفة. وكشفت تطورات الاحداث المتتالية بعد ذلك الدور المباشر للاحتلال في حدوث الانقسام وضمان إستمراره.
جاء إنسحاب قوات الاحتلال من القطاع في صيف عام 2005 في ظل عدد من الوقائع التي مهدت الطريق أمام حدوث الانقسام. فنفذ الاحتلال إنسحابه دون تنسيق مع السلطة التي كانت تعاني ضعفاً عسكرياً وأمنياً كبيراً، في أعقاب ضرب الاحتلال لمكانتها وبنيتها التحتية خلال الحرب التي شنها (شارون) لقمع الانتفاضة الثانية. كما جاء ذلك الانسحاب في إطار فوضى أمنية خلفها تغاضي الاحتلال عن تهريب السلاح من مصر إلى داخل القطاع، وسيادة حالة من فوضى السلاح عجزت السلطة عن إحتوائها في ذلك الوقت، في حين نجحت حركة حماس في الاحتفاظ بمكانة عسكرية مميزة نسبياً. وكانت قوات الاحتلال قد إنسحبت من جنوب لبنان عام 2002 في إطار خطة إنسحاب مشابهه، سيطر في أعقابها حزب الله على الاراضي التي جرى الإنسحاب منها. كما كانت مراكز صنع القرار في دولة الاحتلال على بينة تامة بالقلق المصري من إمكانية سيطرة تيار إسلامي كحركة حماس على أمن القطاع. وجاء تنفيذ إسرائيل لانسحابها من القطاع مصاحباً لضغوط الرئيس الامريكي (جورج بوش) الابن على الرئيس (محمود عباس)، لاجباره على ترتيب إنتخابات تشريعية نزيهة، حيث لم يكن خفياً على إسرائيل والولايات المتحدة نية حركة حماس المشاركة فيها والتي أعلنت صراحة عن ذلك. كما لم يكن خفياً تصاعد المكانة الشعبية لحركة حماس في ظل تراجع مكانة السلطة التي تقودها حركة فتح.
لا يمكن فصل تلك الملابسات عن تصريحات قيادة دولة الاحتلال التي إعتبرت أن فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية يعود بالفائدة عليها. فصرحت أوساط مؤثرة في عملية صنع القرار أن عدم تخلي حركة حماس عن برنامجها السياسي يسمح لاسرائيل الادعاء بعدم وجود شريك فلسطيني، وتكريس موقف دولي معاد للسلطة، في حين أن تخلي حركة حماس عن برنامجها السياسي يسمح باحتوائها ضمن إطار إتفاق أوسلو وشروطه. إلا أن عدم قبول أي من الطرفين الفلسطينيين بنتائج الانتخابات، يفتح باب الصراع بينهما على مصرعيه، وهو ما حدث بالفعل.
ويفسر رفض إسرائيل والولايات المتحدة والرباعية الدولية جميع المواقف المرنة التي قبلت بها حركة حماس لتحقيق القبول الدولي سواء بعد فوزها في الانتخابات أو حتى بعد إستيلائها بالقوة على السلطة في القطاع، الدور الذي تلعبه إسرائيل وحلفاؤها في تأجيج حده الصراع الفلسطيني ورسم حدوده. فتسبب العامل الخارجي بشكل رئيسي في إسقاط الحكومة الفلسطينية العاشره والحادية عشر، أي سواء تلك التي شكلتها حركة حماس بمفردها، أو تلك التي تشكلت عقب إتفاق مكة. ويقر الرئيس (عباس) بأن الولايات المتحدة خدعته لأنها أعطته الانطباع بعدم معارضتها لتركيبة حكومة الوحدة الوطنية في إتفاق مكة ثم تراجعت تحت الضغط الاسرائيلي بعد ذلك.
لم تتفاجئ أجهزة الاستخبارات في إسرائيل من سيطرة حركة حماس على القطاع بل كانت تتوقعها. ولم تستطع إسرائيل إخفاء إستحسانها من حدوث الانقسام بين الضفة والقطاع. فإعتبر (أيهود أولمرت) رئيس الوزراء الاسرائيلي في حينه أن تحرّر الرئيس (عباس) من تحالفه مع حركة حماس خلق فرصة للتفاوض. ووقفت إسرائيل بقوة ضد أية مساعي تصالحية بين حركتي حماس وفتح، ووضعت العراقيل لضمان عدم إنجاز تلك المصالحة. وأعلنت إسرائيل مراراً أن المصالحة تقضي على فرص المفاوضات معها، وطالما خيرت السلطة ما بين السلام معها أو المصالحة مع حماس. كما قاطعت إسرائيل حكومة الوحدة الوطنية التي نتجت عن إتفاق مكة، والتي تسبب فشلها في حدوث الانقسام، وهاجمت إتفاق الشاطئ الأخير.
وبقي التدخل الغربي تجاه المصالحة تدخلاً في صميم القرار الفلسطيني، بما يمكن إعتباره معطلاً لتلك المصالحة. فطلب (جورج ميتشل) المبعوث الامريكي للسلام في الشرق الاوسط من الرئيس (عباس) تأجيل التوقيع على الورقة المصرية للمصالحة عام 2009. كما طالبت اللجنة الرباعية بأن يضمن إتفاق المصالحة الذي تم التوصل إليه عام 2011 أن تكون حكومة الوفاق بقيادة (سلام فياض) وتتبنى برنامج الرئيس (عباس)، ودون إحداث أية تغيرات على الترتيبات الأمنية في الضفة، ودون أن تلعب حركة حماس أي دور سياسي في المنظمة، حتى تغير مواقفها تجاه إسرائيل والاتفاقيات الموقعة معها. ولم يتغير موقف الرباعية الدولية وشروطها من أي إتفاق مصالحة بعد ذلك، رغم أن مهمة حكومة الوفاق الوطني إدارية تتعلق بتسيير المفاصل الحياتية الفلسطينية، وليس لها علاقة بالموقف السياسي والمفاوضات مع إسرائيل، والذي بقي من ضمن صلاحيات المنظمة والرئيس.
جاء إنسحاب إسرائيل من القطاع سعياً منها لاعتباره إنهاءً للاحتلال، على الرغم من أنها لم تخف نيتها الاحتفاظ بسيطرتها على مجاليه الجوي والبحري، والثقة بقدرتها العسكرية العالية والتي تمكنها من القضاء على أية قوة عسكرية مفترضة يمكن أن تراكمها فصائل المقاومة مستقبلياً فيه، فشنت فعلياً ثلاثة حروب مدمرة عليه. وأعطى الانقسام المبرر لاسرائيل للاحتفاظ بالضفة تحت سيطرتها، بحجة عدم قدرة الفلسطينيين على حماية أمنها وسلامتها. وتتوالى المبادرات الدولية لارغام حركة حماس التنازل عن المقاومة لتثبيت حكمها في القطاع. وجاءت جميع تلك التطورات لتلبي توصيات وثيقة توليدو.
وفي سياق تاريخي لا ينفصل، لعب الاحتلال دوراً جوهرياً في تأجيج الصراع الفلسطيني، ولا يجوز فصل الانقسام عن سياقه التاريخي والمرتبط بتطور الصراع. فجاء توجه الاحتلال بالتغاضي عن قرار جماعة الاخوان المسلمين في فلسطين بانتقالها إلى ممارسة النشاط السياسي في نهاية العقد السابع من القرن الماضي، بهدف خلق منافس لفصائل المنظمة، والذي من شأنه إضعاف الحراك الفلسطيني عموماً الموجه ضد الاحتلال. فدشنت تلك الحقبة أول مراحل الصراع، وجسدت المنافسة على قيادة الاتحادات الطلابية في الجامعات والنقابات المهنية حدوده الذي وصل أحياناً حد الصدام العنيف. وبقيت معالم ذلك الصراع حاضرة خلال سنوات الانتفاضة الاولى أيضاً.
ثم عاد الاحتلال وإفتتح مرحلة جديدة من الصراع بين الفلسطينيين، بتوقيعه إتفاق أوسلو مع المنظمة، فتدخل في توجيه حدوده وطبيعته وأعاد رسم معادلة الصراع بشكل رسمي ومباشر هذه المرة، لكن دون تخليه عن هدفه المتمثل بحرف المقاومة الفلسطينية. وتطلعت إسرائيل من خلال توقيعها على إتفاق أوسلو التخلص من تهمة الاحتلال، فإهتمت بشكل رئيسي باقرار المنظمة بنعت المقاومة بالارهاب، على أساس أن مبرر وجودها لم يعد موجود. وساهمت شروط إتفاق أوسلو، في تحديد مهام السلطة بضمان أمن إسرائيل وتعهدها بمحاربة فصائل المقاومة لمنعها من العمل ضد الاحتلال. ووضعت إسرائيل السلطة في إختبار دائم يتطلب إلتزامها بمحاربة المقاومة (الارهاب) وإلا تفقد حسب تعهداتها مبرر وجودها. وكانت إتفاقية أوسلو قد منحت حركة فتح مفاتيح القيادة في أراضي الحكم الذاتي، فباتت تقود السلطة بالاضافة إلى المنظمة، وبات الصراع يقوم بين السلطة كقوة حاكمة وبين حركات المقاومة كقوى معارضة، فحولت إسرائيل من خلال إتفاق أوسلو والاتفاقات الامنية التابعة له مقاومة الفلسطينيين عموماً ضد جرئم إحتلالها إلى صراع بين الفلسطينيين، في إطار إختلاف المقاربات السياسية بينهم، وإمتدت هذه الحقبة من الصراع طوال عهد الرئيس الراحل (ياسر عرفات).
وضعت شروط خطة خارطة الطريق عام 2003 الاساس لتدشين حقبة ثالثة من الصراع الفلسطيني، حيث جاءت تلك الخطة في أعقاب الحرب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين سلطة ومقاومة، في إطار حرب الولايات المتحدة على الارهاب. فقبلت السلطة بشروط تلك الخطة التي أعادت ترتيب الاوضاع الداخلية لتكبيل أدائها وإخضاعها للرقابة، وانخرطت فصائل المقاومة خصوصاً تلك المتواجدة في القطاع وعلى رأسها حركتي حماس والجهاد في عدة إتفاقات للهدنة مع الاحتلال لأول مرة في تاريخها. وتمثلت أهم الشروط التي حكمت هذه المرحلة من الصراع، في مواجهة المقاومة بقوة ومحاولة دمج فصائلها في إطار السلطة، فخلق الاحتلال خلالها صراعاً مباشراً على السلطة بين حركتي فتح وحماس.
يبدو دور الاحتلال حاضراً وبقوة في تأجيج حدة الصراع، إلا أنه من الملاحظ أن تدخله في توجيه الصراع والتحكم به كان محدوداً قبل أن يرتبط باتفاقات مع الفلسطينيين. ورغم أن الاحتلال عمل على إستدراج الفلسطينيين لتأجيج الصراع بينهم خلال مراحله الثلاث، إلا أن تأثيره بقي محدوداً بفعل العامل الوطني ووحدة الهدف الساعي لمواجهة الاحتلال في المرحلة الاولى منه. في حين سعى الاحتلال من خلال توقيع إتفاقية أوسلو إلى تشوية المعنى الوطني، وزرع بذور الاختلاف حوله بين الاشقاء، فتأجج الصراع وخفت تأثير العامل الوطني. ونجح الاحتلال بامتياز عندما فتح باب الصراع بين الاخوة على السلطة، فوصل الصراع حد الانقسام. وتبقى الوحدة الوطنية ووحدة الهدف وتراجع المصالح الحزبية الضيقة السبيل الوحيد للصمود أمام مخططات العدو.
بقلم د. سنية الحسيني