يبدو أن العاصمة الروسية موسكو قد دخلت على خط المصالحة الوطنية الفلسطينية، وأعلنت استعدادها لاستضافة القوى الفلسطينية على اختلاف مشاربها السياسية والعقائدية، إذ أعلن ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسية، ومبعوثها للسلام إلى منطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا، استعداد بلاده لتوجيه دعوةٍ إلى القوى الفلسطينية جميعها للقاء في عاصمة بلاده، وتحت سقف ورعاية الكرملين العريق، لدفع الفلسطينيين للتوافق والاتفاق فيما بينهم، ومساعدتهم على إنهاء الانقسام المرير، بعد أن مضى على القطيعة المفجعة بينهم قرابة عقدٍ من الزمان، وما زال الخلاف مرشحاً لمزيدٍ من سنوات القطيعة والضياع، إذ لا يبدي المتنازعون استعداداً للتوافق، ونيةً صادقةً للتنازل عما يعيق الوفاق ويعقد حل المشاكل القائمة بين الفرقاء، بل يبدو أن الهوة تتسع، والمشاكل تزداد، والتراشق الإعلامي يتصاعد، والاتهامات تتبادل.
فهل تتمكن موسكو من جمع شتات السياسة الفلسطينية، في الوقت الذي عجز فيه الآخرون، وتنجح في رأب الصدع بين الفرقاء، رحمةً بالضعفاء، وإنقاذاً للفقراء، ورأفةً بالشعب المعنى، ومساعدةً للفلسطينيين المحاصرين الممنوعين من السفر والعلاج والعمل، وبل المحرومين من الحياة الكريمة، التي لا يتوفر فيها أبسط أسباب العيش الإنساني، وما كان هذا إلا بسبب الانقسام أولاً، قبل الاحتلال الذي ربما يكون أحد أهم عوامل بقاء الانقسام وتكريس الفرقة والاختلاف بين فئات الشعب الفلسطيني، إذ لا ننكر أنه يعمق الخلاف، وينمي الصراعات، ويرعى الخصومات، ولكن هذا لا يبرئ القيادات الفلسطينية على اختلافها، سلطةً وقوى وفصائل، من تحمل المسؤولية، فهي المدانة لتقصيرها، والمحاسبة عن جريمتها، والمسؤولة عن تأخير حلها.
الأمر غايةٌ في البساطة، وهو ليس معقداً ولا صعباً، ولا شائكاً ولا غامضاً، ولا يحتاج إلى جهودٍ دوليةٍ أو وساطاتٍ إقليمية، فالفلسطينيون ليسوا بحاجةٍ إلى عاصمةٍ عربيةٍ أو أجنبيةٍ لاستضافتهم، وعقد الاجتماعات في بلادهم، ونيل شرف رعايتهم، فأرضهم تتسع للقاء، وهم يعرفون مشاكلهم، ويدركون تناقضاتهم، ويلمسون نقاط الاختلاف وعناوين التوتر، وقد أشبعوها بحثاً، وأغنوها نقاشاً، حتى أصبحت قضاياهم مكرورة، وعناوينهم ممجوجة، يعرفها الجميع، وكأنها نسخة مكررة عن أول اجتماعٍ عقد بينهم، لا اختلاف فيها ولا إضافات عليها، وما على اللجان التحضيرية التي تسبق اللقاءات وتهيئ لها، إلا أن تعد صورةً عن جدول أعمال أول لقاء، ليكون هو برنامج أي حوارٍ فلسطيني جديدٍ في أي عاصمةٍ عربيةٍ أو أجنبيةٍ.
اللهم إلا إذا أرادت قيادات السلطة والقوى والحركات الفلسطينية السفر للاستجمام والسياحة، وقضاء أجمل الأوقات في أضخم الفنادق وأكثرها خدمةً ورفاهية، هم ومرافقتهم ومستشاريهم، وحاشيتهم وأتباعهم، وأحياناً بعض أفراد أسرهم، ينامون فيها ملء عيونهم، ويضحكون ملء أشداقهم، يأكلون ويشربون ويسهرون ويتسامرون ويدخنون الأركيلة، ويرتادون المسابح المغلقة والصالات الرياضية المزودة بكل جديدٍ وحديثٍ مما يرفه عن النفس، وينشط الجسد، ويبعث في النفس حيويةً جديدةً، وأملاً في الحياة الرغيدة، وكأنَّ شعبهم لا يعاني، وأهلهم لا يشكون، وعندهم ما يسري ويخفف عنهم، وقد نسوا أن من سبقهم من القادة كان لا يبتسم وفي رعيته من يبكي، ولا يشبع وغيره جائع، ولا يأكل إداماً ولحماً بينما غيره لا يجد مثله أو أقل منه، ولا ينام إن كان في بلاده من يشكو الحاجة، أو يئن من المرض، أو يكابد الجوع والفقر.
الفلسطينيون لا يحتاجون وسيطاً لأن يأخذ بأيديهم إلى جادة الصواب أو يضعهم على الطريق المستقيم، أو يقدم لهم المساعدة لينير لهم الدرب ويدلهم على الصواب، فهم يعرفون تماماً أن شعبهم يتطلع إلى الحرية، ويريد الانعتاق من نير الاحتلال الذي ما زال جاثماً على صدورهم، يحتل أرضهم، ويطارد سكانها، ويغتصب حقوقهم، ويقتل أبناءهم، ويريدون أن يتخلصوا من الحصار، وينطلقوا من الأسر الذي يقيدهم، والقيد الذي يكبت حريتهم، ويريدون حكومةً واحدةً، صاحبة سلطةٍ وصلاحياتٍ واضحة، تدير شؤون الوطن، وتعلي أركانه وتثبت بنيانه، وتساعد أبناءه، وتنظر في حاجاتهم، وتعمر ما خربه العدوان، وتعيد اللحمة والوحدة إلى شطري الشعب جغرافياً وسكانياً، الذين انقسموا بين الفرقاء، وتشتتوا بين المختصمين، فضاعت حقوقهم، وتمزقت بلادهم، ودمرت حياتهم وفقدوا مستقبلهم.
أركان المصالحة تقوم على قيادةٍ رشيدةٍ واحدة، تنتخب من الشعب، ويختارها أصحاب الحق في الوطن والشتات، في انتخاباتٍ حرةٍ ونزيهةٍ، شاملةٍ وكاملة، تنتج حكومةً واحدةً محترمةً ومقدرة، تحترم خيارات الشعب، وتلتزم بحقوقه، ولا تفرط في ثوابته، ولا تعتقل أبناءه ولا تعذبهم، وتوقف الاعتقالات المتبادلة، وردود الأفعال الكيدية، ولا تكون للعدو شرطة، وفي يده عصا، يهزها وقت شاء ويضرب بها من يريد، وتسهر على راحته، وتضمن أمنه وسلامته، وتنسق معه لمصالحه، وتقبل باعتداءاته ولا تعترض على سياسته، ولا تقوى على مواجهته خوفاً أو رهباً، أو طمعاً في عطاء لن يكون، ومنحةٍ لن تتحقق.
لم يبق مكانٌ لم يلتقِ فيه الفرقاء الفلسطينيون، ولم تبقَ عاصمةٌ عربية وإسلامية لم تستضف الأطراف الفلسطينية المتنازعة فيما بينها، فقد التقوا في العاصمة السنغالية دكار وفي مكة المكرمة والدوحة والقاهرة وبيروت، وفي مخيم الشاطئ على أرض الوطن في غزة، وغداً في موسكو، وربما بعد غدٍ في مكانٍ آخر، ولكنهم لم يصلوا إلى إتفاق، أو لم يلتزموا باتفاق، ولم يطبقوا شيئاً مما تم التوقيع عليه، وكأن حبر التوقيعات مغشوش لا يصمد ولا يدوم، ولا يطلع عليه نهار، ولا تشرق عليه شمس.
ليست المشكلة في المكان أبداً، إنما هي في النوايا دوماً، فهي محل الثقة وموضع الاختبار، فالفلسطينيون ليسوا في حاجةٍ إلى راعٍ وسيطٍ أو مكانٍ محايد، ففي أرضهم متسعٌ للقاء، وبينهم عددٌ كبيرٌ من الحكماء، إنما هم في حاجةٍ إلى مصالحةٍ صادقةٍ دائمةٍ واضحةٍ، تقوم على أساسٍ متينٍ من الصراحة والوضوح، بعيداً عن الغبن والخداع، ومحاولات التصيد والإخضاع، تضمن مستقبلهم، وتؤمن سلامتهم، وتوفر لهم فرص العمل الكريم، والعيش الرغيد، ويتعلم خلالها أبناؤهم، ويتزوج شبابهم، ويطمئن شيوخهم، وتهنأ بالعيش أمهاتهم ونساؤهم، ويمضي اتفاقهم ليصنع شراكةً في الوطن، ورفقةً في السلاح، وأخوةً في المقاومة.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي