أخي الأكرم أيها الشهيد المكرم فؤاد، اليوم في ذكرى استشهادك ورحيلك، وفي يوم صعودك وارتقائك، وفي ظل عروجك إلى السماوات العلى، شهيداً في ساحات الوغى، ومقاوماً على جبهات القتال، بعد أن أبليت في نهارك، وقصفت في صباحك، وأوجعت العدو بسلاحك، كلنا اليوم في بيتك الصغير وعائلتك الكريمة نذكرك، ومن قبل لم ننساك، ولم تغب عن ذاكرتنا يوماً رغم أن عيوننا لم تعد تكتحل بصورتك، ولا ترى هيأتك، ولم نعد نسمع صوتك، ولا نشعر بجلبة حركتك، ولا فوضى دخولك إلى البيت أو خروجك منه، وقد اعتادت أمك وأهلك أن يشعروا بأن جلبتك هي قعقعة سلاح، وصوت رصاص، أو همهمةً لخروج، واستعداداً لعمليةٍ مع إخوانك ورفاق دربك في المقاومة والاستشهاد.
اثنتا عشرة سنة قد مضت على ارتقائك شهيداً، وخزانة ثيابك ما زالت باقية، تلك التي لم يكن فيها ثياب، هكذا حدثوني عنك، إذ لم أرك منذ أن أُبعدتُ من سجن غزة قبل سنوات طويلة، لكنهم حدثوني عنك كثيراً وأخبروني أن خزانتك لا ثياب فيها إلا القليل، ومع ذلك فقد كانت تضيق بما فيها، ولم يكن فيها متسعٌ لملابسٍ أو متاع، إذ كانت تعج بالسلاح، وتتزين بالعتاد، وتفوح منها رائحة البارود، ففيها بنادق وقنابل، وقذائف وخزائن طلقات، وغير ذلك مما كنت تعده وتدخره، وتتدرب عليه وتتهيأ لاستعماله، وتتنافس في اقتنائه وحسن استخدامه، وكنت تحرص عليه رغم خطورة وجوده، والتحذير من أضرار تخزينه.
ثيابك كانت دوماً معبقة برائحة عرقك والبارود، فميزتها عن غيرها، وزينتها دون سواها، وجعلت لها حضوراً لافتاً، واقتحاماً صاخباً، فكانت رائحة سلاحك إلى البيت تتقدمك، وإلى الأهل تسبقك، وبها كانوا يعرفون بمقدمك، وأنت عائدٌ إليهم من مهمة، أو راجعٌ من رباطٍ أو استطلاع، لكنك لم تكن مثلهم، ولم تهتم برائحة ثيابك، بل كنت تشتم رائحة الجنة، وتشعر بعبق الشهادة.
اليوم أخي فؤاد نذكرك ولا ننساك، وكل بيوت فلسطين مثلنا تذكر أبناءها، وتتذكر أيامهم الجميلة، وذكرياتهم الحلوة، وتتفقد بقاياهم العزيزة وآثارهم المباركة، وما من بيتٍ إلا وفيه مثلك، قد سبقك إلى الجنة أو لحق بك، وكلهم عند أهلهم عزيزٌ وأثير، وكريمٌ ومقدم، ولكنهم يا أخي كثيرون ويزدادون، وكأنهم نبعٌ لا ينضب، وعطاءٌ لا يتوقف، وسيلٌ لا يعرف غير المسير، وما من خائفٍ من الشهادة، أو جبانٍ في المواجهة، أو يخشى اللقاء ويتهيب من النزال، بل إن كثيراً غيرك يتسابق نحو الشهادة، ويغذ الخطى نحو الجنة، غير مبالٍ بقوة العدو وجبروته، وغير هيابٍ من قصفه أو سلاحه.
لكن يا أخي أحوالنا باتت لا تسر حبيباً، ولا ترضي صديقاً، فجرحنا ما زال ينعب، ودمنا ما زال ينزف، وشبابنا ورجالنا في المعتقلات يقبعون، وخلف قضبان السجن يعانون، وأرضنا على حالها محتلة، وحقوقنا مهدورة، ومستقبلنا مهدد، ومعاناتنا كبيرة، بل هي أكبر بكثيرٍ مما كانت أيامك، فقد ضاقت علينا الدنيا بما رحبت، وفقدنا الحليف والنصير، وتخلى عنها القريب والبعيد، وساءت أحوالنا، واضطربت أمورنا، ومادت بنا الأرض حتى كادت أن تخسف بنا، وهاجت الأمواج حتى كدنا نغرق، واشتعلت بنا النار ومن حولنا حتى بتنا نهلك، وليس من يسمعنا أو يجيرنا غير الله، وقد تكالب علينا الخصوم والأعداء، وتنكر لنا الأصدقاء والأحباب، وتخلى عنا الرفاق والشركاء، وكثر المتآمرون والمتاجرون، ونما بيننا المستفيدون والأفاقون، الذين يتحركون بصمتٍ ويلتقون في الخفاء، ويفاوضون بسريةٍ ويحاورون بريبة، ويبدون استعداداً للتخلي وقبولاً للتنازل، في خيانةٍ كبيرة لدمائكم وأرواحكم، وانقلابٍ على تضحياتكم وعطاءاتكم.
نحن يا أخي الحبيب لم نعد صفاً واحداً، ولم تعد لنا كلمة موحدة، ولا هيبة مشتركة، فقد دب بيننا الخلاف، ونزع بيننا الشيطان حتى بتنا أكثر من فريقين، مختلفين فيما بيننا، ومتشاكسين على مصالحنا الخاصة، وهمومنا الحزبية، وقد شغلتنا الخلافات عن القضية، وأغرقتنا في تفاصيل وهمية، واهتماماتٍ جانبية، بينما العدو ماضٍ في سياساته، ومصرٌ على مواقفه، يقضم الأرض، ويقتل البشر، ويخلع ويحرق الشجر، ويدمر البناء والحجر، ونحن أمامه ضعفاء باختلافنا، ولا نخيفه بتمزقنا، ولا نرعبه بتناقضنا.
بلادنا من بعدكم قد تمزقت وتشظت، وحلت عليها اللعنة، ونزلت في جنباتها الفتنة، واشتعلت فيها حروبٌ طاحنةٌ، واستيقظت فيها الفتن الماحقة، والأهوال الحالقة، والطائفيات المقيتة، والصراعات والمطامح، وحروب المنافع والمصالح، وقد ضل حكماء بلادنا وانحرفت قيادتها، وتدخل في شؤونها العدو، فزجها في أتون نارٍ لا تشبع، وزودها بحطبٍ من أبنائنا الأصلاء والغرباء الدخلاء يتجدد، فأشعل بهم النار وزاد في أوراها، وسعَّر بهم الوطن والشعب والمقدرات والخيرات والماضي والحضارة والتاريخ، ودمر بهم المستقبل، فقُتل فيها أبناؤها، وتهجر سكانها، وتهدمت مبانيها، وخربت شوارعها، وحرقت مزارعها، ونهبت متاجرها، وحل بها البوار في الأحياء والجماد منها على السواء.
أخي الشهيد في ذكراك العظيم وعرسك البهيج، ويومك السني المهيب، إليك وإلى كل الشهداء الذين سبقوا ومن بقي منهم على العهد ولحقوا، تحيات الوطن المكلوم، والمسجد الجريح والمسرى المستباح، والشعب الحزين، والأمة الثكلى، الذين يحفظون فضلكم ويترحمون عليكم، ويسألون المولى الكريم أن يثيبكم على ما قدمتم، وأن يعطيكم خير ما سألتم، وأن يعوضكم خيراً مما تركتم، وأفضل مما خلفتم، وأن يجمعكم بمن أحببتم، وأن يعجل ما قدمتم لنا درباً، ودماءكم لنا نوراً، وأسماءكم في سمائنا نجوماً إلى يوم القيامة، توصوص في كبد السماء، تدل على الطريق، وتأخذ بأيدي التائهين والحيارى إلى جادة الصواب والطريق القويم، وتحرق بنارها كنيازك السماء كل من غدر وخان وفرط وتنازل.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي