مرّت الذكرى الثامنة للانقسام من دون اهتمام يذكر، لأن المصالحة مجمدة بالرغم من تشكيل حكومة وفاق وطني منذ أكثر من عام لم تساعد على إنهاء الانقسام، بل تفاقم الوضع بعد تشكيلها أكثر، وأصبح حال المصالحة أشبه بما يسمى «عملية السلام» التي ماتت منذ زمن طويل وغدت عملية بلا سلام.
لقد تعمّق الانقسام أفقيًا وعموديًا وتجذّر نفوذ جماعات مصالح الانقسام على كل المستويات والأصعدة، وباتت جهود إنهاء الانقسام بحاجة إلى زخم أكبر وإلى فترة طويلة حتى تحقق النجاح.
في هذه الذكرى المشؤومة أورد بعض الملاحظات والاستنتاجات والدروس :
أولًا: إن للانقسام جذورًا فلسطينية عميقة لها علاقة بالخلافات والمصالح والعقائد وتغليب الصراع على السلطة على أي شيء آخر، وهناك عوامل خارجية إسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية؛ ما يعني أن قرار إنهاء الانقسام ليس فلسطينيًا فقط، بل هو قرار تؤثر فيه إسرائيل والأطراف العربية والإقليمية والدولية. صحيح إن تأثير العوامل الخارجية متحرك ومتغيّر، وخصوصًا في ظل المتغيرات والانشغالات والحروب الداخلية العربية، إلا أن العامل الإسرائيلي يبقى لاعبًا رئيسيًا، فمن مصلحة إسرائيل إبقاء الانقسام حتى يتحول إلى انفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تبقى شروط اللجنة الرباعية الدولية الظالمة عقبة كبيرة لا يمكن الاستهانة بها، فعند تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الفصائل تبرز هذه العقدة وتحول دون تشكيل الحكومة الوحيدة التي بمقدورها مواجهة التحديات والمخاطر.
ثانيًا: لن يتحقق إنهاء الانقسام عن طريق المناشدة والتمنيات ومطالبة طرفي الانقسام والمستفيدين منه بإنهائه، وإنما من خلال إيجاد طرف ثالث يعبر عن إرادة الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، بما فيهم أغلبية أعضاء ومناصري «فتح» و»حماس»، يعمل على توليد ضغط سياسي وشعبي متراكم يكبر ويكبر حتى يصل إلى مرحلة يصبح فيها الضغط من أجل إنهاء الانقسام أقوى من الضغط للإبقاء عليه.
وحتى يمكن الوصول إلى هذه المرحلة لا بد أن تكون الجهود لإنهاء الانقسام جزءًا من كل، وفي سياق عملية إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية وإعادة تعريف وتحديد البرنامج الوطني ومؤسسات منظمة التحرير، بصورة تأخذ بالحسبان الحقائق الجديدة والخبرات المستجدة والمتغيرات العميقة والدروس والعبر التي يمكن أخذها من التجارب الماضية، فما كان جائزًا أو صالحًا قبل مائة أو خمسين أو حتى عشرين عامًا لم يعد جائزًا أو صالحًا الآن، وفي عصر ما بعد الحداثة والعولمة وصعود وهبوط الحركات الوطنية والقومية والأممية و»الإسلامية» وبروز ظاهرة الإرهاب والمنظمات التكفيرية عابرة الحدود والقارات.
ثالثًا: إن إنهاء الانقسام لا يمكن أن يكون بشكل انتقائي ولا بالتركيز على بعض الجوانب وإهمال قضايا أخرى جوهرية، بل لا بد أن يكون في إطار تحقيق عملية كبرى تستهدف النهوض بالشعب الفلسطيني لتحقيق الأهداف والحقوق، عندها يمكن أن يتحرك الفلسطيني لأنه ستكون هناك قضية كبرى تستحق التضحية من أجلها، لأن المصالحة على أساس المحاصصة وإبقاء الوضع على ما هو عليه لا تستقطب اهتمام الشعب.
نحن بحاجة إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وليس إلى مجرد المصالحة، وهذا يقتضي التوصل إلى اتفاق شامل رزمة واحدة، يتضمن أسس الشراكة السياسية والقواسم المشتركة، وإدارة الخلاف حول القضايا المتبقية بشكل ديمقراطي، وإعطاء الأولوية لإعادة بناء المنظمة لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وعدم تقديم قضايا السلطة التي بلا سلطة على حساب المنظمة التي أُهمِلت وقُزِّمت بما يشكل استمرارًا لنهج أوسلو الذي مسّ بوحدة القضية والأرض والشعب، والذي أصبح الجميع تقريبًا يعمل تحت سقفه. هذا النهج أدى إلى تقزيم وتقسيم القضية الفلسطينية وحصرها بالدولة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي انتهى إلى اللهاث من أجل إقامة «دويلة» مقطعة الأوصال على جزء من الأراضي المحتلة العام 1967 (دولة ذات حدود «مؤقتة»)، أو إقامة «دولة غزة» مقابل هدنة طويلة الأمد.
رابعًا: إن العمل من أجل الاتفاق الشامل والرزمة الكاملة لا يعني الامتناع عن تحقيق أي خطوة يمكن تحقيقها، خصوصًا في المجالات التي تمس شؤون الحياة اليومية وتوفر الحماية للشعب الفلسطيني في مواجهة المخاطر الجسيمة الراهنة في مختلف أماكن تواجده، «فما لا يدرك كله لا يترك جله»، ولكن مع أهمية ربط أي خطوة بعملية مترابطة تهدف إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة سياسية حقيقية. فالهدف النهائي لا يمكن أن يكون إدارة الانقسام أو التعايش معه أو التنظير باستحالة إنهائه.
إنهاء الانقسام صعب وصعب جدًا ولكنه ليس مستحيلًا، لأن الوحدة ضرورة وقانون انتصار حركات التحرر الوطني، ولأن المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري الاحتلالي الإجلائي يستهدف الكل الفلسطيني، ولا يميز كثيرًا بين فلسطيني معتدل وآخر متطرف، بين «فتح» و»حماس». كما أن هذا المشروع بحكم أهدافه وأطماعه وجذريته وتطرفه لا يقبل بالتسوية، وإنما يريد تحقيق كل شيء؛ لذلك أفشل كل الجهود والمبادرات الرامية للتوصل إلى حل رغم أن الجانب الفلسطيني والعربي قدم تنازلات كبيرة لم يحصد مقابلها سوى الريح.
خامسًا: إن المرحلة الحاليّة ليست مرحلة الحصاد ولا تؤذن بإقامة دولة فلسطينية، حتى ولو على حساب حق العودة والحقوق الأخرى للشعب الفلسطيني، وإنما هي مرحلة الصمود وإبقاء القضية حية، وتقليل الأضرار والخسائر، وإحباط الحلول والخيارات المفضلة لدى إسرائيل، والحفاظ على الحقوق والأهداف وما تبقى من مكتسبات، وعدم تقديم تنازلات جديدة، وسحب التنازلات المقدمة ولكن ضمن حسابات دقيقة ومسؤولة تهدف إلى إعادة بناء المؤسسة الوطنية الجامعة والبرنامج الوطني والقيادة الواحدة، بما يحافظ على التعددية ويغنيها باستمرار كونها مصدر قوة ومناعة واستمرار القضية الفلسطينية.
يكون الحل ببساطة من خلال الشروع في حوار وطني شامل يتوج بعقد مؤتمر وطني يشارك فيه ممثلون عن كل تجمعات الشعب الفلسطيني، بما في ذلك ممثلون عن المرأة والشباب والشتات بنسب تناسب حجمهم ودورهم. حوار لا يقتصر على القشور والجوانب الشكلية والإجرائية ولا يركز على المحاصصة والمصالح الفردية والفئوية والفصائلية والجهوية، وإنما يستند إلى «ركائز المصلحة الوطنية العليا»، ويهدف إلى بلورة جواب صحيح على أسئلة محورية أهمها: أين تقف القضية الفلسطينية الآن؟ وإلى أين تريد أن تصل؟ وكيف تحقق ما تريد؟
يتطلب إنهاء الانقسام من «فتح» و»حماس» والرئيس أولًا وقبل كل شيء الإيمان بالشراكة وتجسيدهاعلى مختلف المجالات والمستويات داخل السلطة والمنظمة، والاقتناع بأن السفينة الفلسطينية التي تمخر في بحر يزخر بالعواصف والأمواج العاتية لا يمكن أن يقودها إلى بر الأمان قائد وحده أو فصيل وحده، وخصوصًا بعد أن دخل الجميع بلا استثناء في مأزق وطني عميق عبر وصول الإستراتيجيات المعتمدة وبعد المتغيرات والحروب الداخلية العربية إلى طريق مسدود، فالقضية الفلسطينية بحاجة إلى كل طاقات وقوى الشعب، ولا يستطيع طرف أن يدعي أنه يستطيع أن يحقق الخلاص والتحرر الوطني وحده.
كما يتطلب إنهاء الانقسام إنهاء حالة التفرد والهيمنة التي تعمقت بعد الانقسام، ووقف الرهان على المتغيرات المتوهم حدوثها وعلى الأطراف العربية والإقليمية والدولية، فيراهن الرئيس و»فتح» على الإدارة الأميركية وعلى ما يسمى «عملية السلام»، بينما تراهن «حماس» على جماعة الإخوان المسلمين وأطراف عربية وإقليمية. فلا بد من وقف هذه الرهانات الخاسرة واعتماد مقاربة جديدة يغلّب فيها الجميع المصالح الوطنية على الأجندات والمصالح الخارجية.
بقلم/ هاني المصري