ويكيليكس… أمن المعقول؟ وتداعيات

بقلم: فايز رشيد

هل كنا بحاجة إلى فضائح ويكيليكس لنشر عوراتنا؟ وثائق تقشعر لها الأبدان، هي تلك المعلومات التي نُشرت.
ثروات زعماء عرب من دون وجه حق. زعماء احزاب وقادة تاريخيون في بلدانهم يدّعون الوطنية والجماهيرية، وكأن كل واحد منهم فريد عصره في العروبة والإخلاص لها والوطنية والشعبية، صحافيون ووسائل إعلامية كثيرة فنانات اشتهرن بأصالتهن، يذهب بعضهن في رحلات خاصة إلى حكّام مقابل حفنة من الدولارات، صحافي عربي يملأ الدنيا صياحا وضجيجا في الوطنية، يطلب من دولة عربية مبالغ هائلة من أجل إنشاء حزب وتحويل صحيفته الأسبوعية إلى يومية، وافتتاح فضائية خاصة به. داعية إسلامي يطالب الدولة ذاتها بمبلغ هائل (75 مليون دولار) لتعليم نصف مليون مواطن في بلده القراءة والكتابة.
نشك في أن الدولة المعنية هي التي سعت إلى كل واحد من هؤلاء لتجنيده في خدمة سياساتها وأهدافها، مقابل رواتب شهرية ومساعدات (هبات مالية) لقاء خدماتهم.. بالتأكيد كثيرون سعوا إلى سفارات تلك الدولة بأقدامهم، عارضين خدماتهم عليها، بالطبع كل من طالته فضيحة ينفي ويُكذّب ما جاءت به الوثيقة الخاصة به. نسأل: هل أسانج يتابع أخبار كل واحد منهم يوميا؟ النفي والتكذيب وفقا لعلم النفس، وفي هذه الحالات تحديدا، هو تأكيد بطريق غير مباشرة لما جاء في الوثائق. من قبل أصدر الانتربول مذكرة اعتقال بحق جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيليكس بتهمة (الاغتصاب والاعتداء الجنسي)، بناء على المذكرة التي تلقاها من الحكومة السويدية. وبموجب المذكرة يمكن للإنتربول اعتقاله في الكثير من الدول الموقعة على اتفاق تبادل المتهمين، وتسليمه إلى السويد. القضية ليست بحاجة إلى ذكاء كبير لمعرفة خلفياتها وأهدافها، لأن أسانج لم يرضخ لطلب من البنتاغون والمخابرات الأمريكية، بالامتناع عن نشر الوثائق الأمريكية حول الحرب العدوانية الأمريكية على العراق، وقد نُشر جزءٌ منها أوضح الكثير من الحقائق التي تحاول واشنطن وحلفاؤها إبقاءها طي الكتمان، نظراً لما تسببه لها من إحراج، فهي تفند معظم الادعاءات الأمريكية والغربية للأهداف المعلنة من الحرب على البلد العربي، ويكيليكس نشرت وثائق جديدة.
في مقابلة له مع إحدى الفضائيات سابقا، وعد مدير موقع ويكيليكس بكشف ونشر المزيد من هذه الوثائق، كما أوضح حجم الإغراءات والضغوطات التي تعرض لها وموقعه، من أجل عدم نشر هذه الوثائق ومنها، الإغراء بالأموال الوفيرة والتسهيلات الكبيرة لموقعه الإلكتروني. أما الضغوطات فقد تمثلت في التهديدات الكثيرة التي تسلمها على موقعه، من خلال جهات معنية باغتياله معنوياً وشخصياً. رغم ذلك رفض المعني كل هذه الإغراءات والتهديدات، وأصر على استكمال مهمته في النشر… وها هو ينشر وسينشر مئات الآلاف من الوثائق.
من الصعب تصديق هذه التهمة للادعاء السويدي، فلو ارتكبها أسانج فعلياً، فلن يتورط بكشف وثائق أمريكية، لأنه يٌدرك مسبقاً ما ستفعله الأجهزة الأمنية الأمريكية لتوريطه في القضية وكشفه وفضحه. الشمس لا تُغطى بغربال، والوثائق نُشر قسم منها وسيتم نشر المتبقي على دفعات. الجهة التي اقترفت تلفيق تهمة (الاغتصاب الجنسي) بأسانج، لا تدرك على ما يبدو أن البشر يقرؤون ويحللون في أدمغتهم وقادرون على التفريق بين الخطأ والصواب.
نُلقي اللوم في كل هذا المشهد المسرحي على «نظرية المؤامرة» فهي المشجب الذي نعلّق عليه معظم تقصيراتنا. أدرك تماما أن نقدي سيثير صخبا عليّ، ولكن رغم ذلك سأقوم بالنقد الهادف، إنه نقد المعيار العقلي في الظواهر، المحتوي أيضا على ملامح اعتبارية لمذهب كانط، المعتمد على أن بوسع النقدية أن تُفضي إلى معرفة الأشياء التي تتبدى لنا.. فالظواهر تُعرف من تلك الأشياء لا من حقيقتها.. فهي مثالية، لكنها كامنة وليست متعالية، وهي تطورت إلى نظرية نقد العقل العملي ونظرته للقانون الأخلاقي.. وهذا النقد العقلي، لا يكون موضوعيا ما لم يكن حرا، وصادرا عن إرادة مستقلة، وليس خاضعا لحسابات وعوامل خارجية. من الضرورة القول، بأن ليس النظام الرسمي العربي وحده المغرق في التمسك حتى الموت بمناصب رجالات عهوده من أجل مصالحه، وليس فقط وحده من يعيش هاجس ربط الذات بالمعرفة على حساب الفعل الجماعي، بل أن الكثيرين من المحسوبين على الصف الوطني هم في حقيقة أمرهم انتهازيون… يركبون الموجة الوطنية من أجل مصالحهم الذاتية فقط، وليس حبا لا في الوطن ولا في المواطن ولا في مصالح الشعب من الاساس، بالطبع الظاهرة قديمة وليست جديدة.
لعل من أبرز تداعيات ويكيليكس، المزيد من حالة الإحباط التي يمر بها المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، التشكيك بكل دعوة وطنية مستقبلا، وبمن يدعو إليها. إن ما وصلنا إليه من حالة تردي وصراعات مذهبية – طائفية – إثنية في أحد وجوهه هو نتاج لحالات عديدة من الانتهازية السياسية، والبحث عن المصالح الشخصية للعديد من المحسوبين على الصف الوطني.
في حياته تلقى الرئيس عبدالناصر رشوة أمريكية بقيمة 3 ملايين دولار.. بنى بها برج القاهرة، وأعلن لمجلس قيادة الثورة مصدرها وطبيعتها. أدركت أمريكا بعدها ألا سبيل لشرائه، هكذا الرجال. قلنا إن زمننا هو زمن المال وانتشار قيم غريبة، بعـــيدة كل البعد عن قيمنا العربية، يبقى السؤال لكل من يقبلون دعما خارجيا لجيوبهم: مَن الأفضــــل للشخص.. ملايين الدنيا أم السمعة الحسنة؟ مات عبد الناصر فقيرا بالمعنى المادي، لكنه غني بسمعته واحترام الجماهير العربية له، وشعوب أخرى كثيرة والعديد من الدول، لذكراه.
كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد