" فراشة واسيني" تحط في بساتين فلسطين !!

بقلم: عبد القادر فارس

عندما قرر الروائي الجزائري الكبير الدكتور واسيني الأعرج زيارة فلسطين , كانت تجول في خاطره الكثير من الهواجس السياسية والأدبية , فالذهاب إلى "الجزء المتاح من الوطن " , حسب قول شاعرنا الكبير أحمد دحبور , ولو إلى مدينة رام الله التي هي مقر القيادة الفلسطينية , وتحتضن في ترابها جسدي العملاقين السياسي والأدبي ياسر عرفات ومحمود درويش , محفوفة بالمخاطر لوجود الاحتلال الذي يتحكم في مفاصل الحياة الفلسطينية , وحديث البعض من مثقفينا الرافض للتطبيع ولو حتى من باب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه , غير أن " واسيني الفلسطيني " قرر الذهاب إلى فلسطين التي في وجدانه حلما آخر غير ما يتحدث به الكثيرون , خاصة بعدما علم من بعض أصدقائه من الأدباء الفلسطينيين شوق القارئ الفلسطيني لروايات واسيني الرائعة , فقرر دون تردد الذهاب إلى فلسطين ترافقه رفيقة عمره زوجته الرائعة الشاعرة والأديبة الدكتورة زينب الأعوج .
أنا شخصيا تعرفت على واسيني الأعرج خلال إقامتي في الجزائر , عندما كنت أعمل ملحقا صحفيا بسفارة فلسطين بالجزائر , وكذلك كاتبا ومراسلا في صحيفة " القدس العربي " التي تصدر في لندن , وكان يرأس تحريرها آنذاك الصديق والزميل عبد الباري عطوان , وكنت ألتقي واسيني في مقر اتحاد الأدباء والكتاب الجزائريين بشارع " ديدوش مراد " الذي لا يبعد عن مقر سفارتنا سوى بعشرات الأمتار, أو في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة التي تقع في نفس الشارع , عندما كان يعمل أستاذا ومحاضرا للأدب العربي , حيث كانت زوجتي تدرس اللغة والأدب العربي في نفس الجامعة .
ومن أجمل اللقاءات الصحفية التي أجريتها مع الأدباء والشعراء , كان اللقاء الذي أجريته مع الروائي واسيني الأعرج في عام 1993, وكذلك اللقاء مع شاعرنا الراحل سميح القاسم . وكان برفقتي في ذلك اليوم الشاعرة الرقيقة سليمى رحال التي عملت معي مراسلة للقسم الثقافي في " القدس العربي " , تحدثنا في الأدب والسياسة , عن الجزائر وفلسطين , حيث كانت العشرية السوداء تضرب الجزائر , علي وقع المذابح التي كان يقوم بها المتطرفون الإسلامويون , وطالت عددا من المثقفين والصحفيين , بينما فلسطين كانت تشتعل بانتفاضتها الأولى تقض مضاجع الاحتلال , بينما تنقل شاشات التلفزيون مشاهد أطفال فلسطين وحجارتهم , التي كان يقابلها قيام جنود الاحتلال بتكسير عظام أرجلهم وأيديهم , في مشهد همجي كان يلقى حنق وغضب الأشقاء الجزائريين , حيث ظلت تلك المشاهد تؤرق أديبنا الكبير , حين تحدثنا معه في لقاء القدس العربي عن السياسة وعن انتفاضة أطفال الحجارة , ولكنني للأسف فقدت تلك المقابلة والعدد من الصحيفة الذي كان على صفحة كاملة في ذلك اليوم خلال عودتي إلى غزة.
قبل عامين وفي يوم حزيراني , وصل واسيني إلى رام الله , وفي حضرة الغائب الحاضر محمود درويش , بمتحف ومركز درويش الثقافي , وبحضور حشد كبير من السياسيين والأدباء والكتاب والمحبين من القراء , أعلن " واسيني الفلسطيني " أنه خصص ريع بيع الطبعة الفلسطينية من روايته الأخيرة (سيرة المنتهى: عشتها كما أشتهي) لصالح الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي".
وقال واسيني خلال حفل إطلاق الرواية في متحف محمود درويش في رام الله : " إن ما قمت به في الحقيقة من رصد الريع المالي لهذه الطبعة الفلسطينية من الرواية السابقة "مملكة الفراشة" والرواية الأخيرة , في الحقيقة هو فعل رمزي فقط لأبين لهؤلاء الناس والمناضلين والأسرى أنهم ليسوا وحدهم".
وأضاف : "إننا نفعل كل ما نستطيع من خلال وسيلتنا الوحيدة وهي الكتابة لأنه ليس لدينا لا دبابات ولا طائرات ولا أي شيء من سلاح , وإنما نملك القلم وعلى هذا القلم أن يقول الحقيقة ليس فقط لأن هؤلاء فلسطينيون وأسرى ".
واسيني الذي أحب فلسطين بكل تضاريسها بعد أن زار رام الله والقدس ونابلس قبل عامين , عاد لها الشهر الماضي ليلتقي بمحبيه وقرائه , وقال : لم تكن هناك أية قوة قادرة على أن تنغص علي لقائي مع قارئ يجوع من أجل كتاب، في أجواء فلسطينية حميمية ، لم أكن أعلم أنها ستتكرر بعد سنتين.. دهشتي كما دهشة غيري من مثقفي مدينة نابلس بأحيائها العتيقة , وقصبتها التي تشبه حي القصبة في الجزائر القديمة , وبجبل جرزيم المقدس , وجبل النار الذي يشبه جبال الأوراس في شموخه وثورته , كانت كبيرة، من هذا الجمهور الذي يمنح أملا كبيرا في الخير.. سعدت أيضا أن رواية «مملكة الفراشة» ساهمت، بفضل مبيعاتها وطبعاتها العشر، في طباعة أربعة كتب من نصوص الأدباء الأسرى.
شكرا للأديب والروائي الكبير الدكتور واسيني الأعرح على محبته لفلسطين , وشكرا لمثقفي الجزائر الحبيبة وشعبها الطيب الذي كان دائما مع فلسطين , تجسيدا لمقولة الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين " نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة " .

عبد القادر فارس