24 ساعة بين "حلم التحرير" وواقع الاحتلال

بقلم: علي الصالح

المكان شويكة.. قرية تقع إلى شمال مدينة طولكرم.. متاخمة للخط الأخضر، أي خط الهدنة الفاصل بين الضفة الغربية وإسرائيل، إحدى القرى الأماميةالزمان يوم الاثنين الموافق الخامس من يونيو عام 1967.
الأجواء عادية جدا.. لكن إحساسا بين عامة الناس كان أن حربا ستقع هذا الصيف، وإن لم يكن على الارض يشير الى وجود استعدادات لهذه الحرب.. وباستثناء التصريحات النارية من هذا الزعيم العربي، أو ذاك ومن بعض الإذاعات، ليس هناك ما يؤكد أن هذا العام سيكون عام التحرير.. تحرير فلسطين.
هناك استثناء عملي واحد وهو تجريب صافرات الإنذار التي كانت تنطــــلق بين الحين والاخــــر لإنذار الناس مبكرا من غارات جوية معادية.. ولكن لا ملاجئ بنيت ولا دفاع مدني جاهز، ولا تحركات أو حشود عسكرية تشاهد إلا اذا كانت تتم تحت جنح الظلام..
لكن أيا من هذه "النواقص" لم تشغل بال أحد، بل لم ينتبه اليها أحد ما دامت تصلنا الأخبار عبر الإذاعات عن قوة العرب واستعداداتهم للحرب.. فالكل كبار وصغار رجال ونساء يريد الحرب بدون خوف أو قلق.. فلم الخوف وتحرير فلسطين من براثن الصهيونية قاب قوسين أو أدنى.. المسألة ليست اكثر من إطلاق الرصاصة الاولى. فلنطلقها ولنأخذ بثأرنا الذي طال انتظاره 19 عاما.
كان ذاك اليوم صيفيّا جميلا بامتياز.. الشمس ساطعة كعادتها في مثل هذا الشهر من العام، ودرجة الحرارة رغم ذلك كانت لا تزال متدنية نوعا ما.. فاليوم في ساعات صباحه الأولى.. تزينه أشجار اللوز بأوراقها شديدة الخضرة التي بدأت تتفتح ثمارها، وأشجار الزيتون بدأت ثمارها تأخذ شكلها الطبيعي، وأشجار التين بدأنا نتذوق بشائر ثمارها وغيرها من ثروات بلادنا. الهدوء يسود القرية.. وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.. المدارس كانت قد اغلقت أبوابها قبل ايام للعطلة الصيفية.. والمغتربون وهم كثر لم يعودوا بعد.. وأهاليهم كانوا ينتظرونهم على أحر من الجمر.. الرجال في حقولهم والنساء معهم جنبــــا الى جنب.. مجتمع صحي مفتوح نقي آمـــن ومأمـــون.. فالكل من اهل القرية يعرف الكل.. لا مكان للفصل على أساس الجنس كالموجود في هذا الزمن الأغبر، مع زحف الحجاب ومن بعده البرقع… الحشمة موجودة.. والنوايا صافية.. لا مكان للتزمت والتشدد الزائفين اللذين اقتحما مجتمعاتنا مؤخرا من حيث لا ندري.
يزيد هدوء القرية في ذاك اليوم غياب السيارات بأبواقها وأصوات محركاتها.. اذ لم يكن يتجاوز عدد السيارات في البلدة التي كانت تعد بضعة الاف نسمة في حينها، الأربعة وجميعها سيارات اجرة لا تعمل داخل البلدة بل تنقل المسافرين من والى المدينة (طولكرم) ومنها من كان ينقل المسافرين الى خارج البلاد وبالخصوص الكويت، حيث يعمل معظم شباب البلدة. ولا وجود على الإطلاق للسيارات الخاصة التي تعج بها البلدة هذه الايام.
في ذاك اليوم استيقظت مبكرا، وتلك كانت عادتنا في كل الايام، لاننا كنا ننام مبكرا في غياب جميع انواع التسلية المسائية.. فلا تلفزيونات ولا فضائيات ولا هواتف ذكية او حتى غبية.. فالبلدة لم يكن فيها سوى جهازي هاتف ارضي طبعا أحدهما عند مختارها والثاني في الجمعية التعاونية التي كانت طريقة تواصلنا الوحيدة مع العالم الخارجي. كانت الزيارات والسهرات الاجتماعية البديل الوحيد لاجهزة ومسليات العصر الحديث ..الكبار يتسامرون بالقصص واخبار احداث اليوم.. والأطفال يسترقون السمع بشغف بينما أياديهم تلقي علب الكبريت في ما يسمى لعبة القاضي والجلاد.. وهي لعبة يلقي اللاعب العلبة فإذا وقفت على قرنها يصبح هو القاضي.. والجلاد هو من ينجح في ايقافها على الجانب الأكثر عرضا والضحية هو من يفشل ويصبح تحت رحمة القاضي والجلاد.. تلك كانت تسلية الاطفال في غياب البلاي ستيشين والآبس والالعاب العديدة الأخرى والهواتف الجوالة واليوتيوب والفيسبوك وتويتر والتلفزيونات الذكية إلخ. وعندما تصل القصص إلى نهاياتها ويكتفي المتسامرون من النميمة تنتهي السهرة التي لم تكن لتطول كما في أيامنا هذه. فكل شيء ينتهي باقتراب الساعة من التاسعة مساء بسبب العتمة وغياب مصابيح الكهرباء في الشوارع.
استيقظت فرحا بالضيوف الذين حلوا عندنا قبل أيام، من إحدى الدول الخليجية لقضاء عطلة الصيف كما هي العادة في كل سنة.. شقيقتي الكبرى التي كانت تعمل مدرسة هناك وزوجة شقيقي وبكرهما خالدة ذات الربيعين. وخالدة كانت الطفل الأول الذي التقيه من أبناء وبنات شقيقي وشقيقاتي.. أول مهامي في ذاك الصباح كانت زيارة الحلاق وهو احد اثنين في القرية، خرجت من البيت متسللا حتى لا تنتبه خالدة التي سرعان ما توطدت العلاقة بيننا، رغم إنه لم يمض سوى بضعة أيام على اللقاء الاول، فتتعلق بي كي أصطحبها. محل الحلاقة لا يبعد كثيرا عن منزلنا الواقع على الشارع الغربي وهو احد شارعين رئيسيين شق الاول البريطانيون، والثاني "الشرقي" شقه النظام الأردني.
وصلت الى محل الحلاقة… كان خاليا إلا من صاحبه واسمه الذي لا أزال أتذكره جيدا، ابراهيم الأطرش، ومقعد الحلاقة اليتيم وكرسي آخر لمن يريد الانتظار من الزبائن وهم ليسوا كثرا، اغنية وطنية حماسية كانت تصدح من إذاعة الشرق الأوسط المصرية عبر جهاز الراديو الصغير، الذي كان لا يقفل أبدا طالما ابراهيم يجز شعور زبائنه ويطقطق بمقص الشعر وينفخ بالمشط ليتخلص من بواقي الشعر عليه. واذا لم تخني الذاكرة فكانت الأغنية "وطني حبيبي.. الوطن الاكبــــر… الاغنية التي لا تزال حتى اليوم تثير عندي مشاعر دفينة كلما استمعت اليها. وبدون مقدمات توقفت الاغنية ليأتينا عبر الأثير، صوت المذيع مجلجلا معلنا بدء العدوان الصهيوني الغاصب على "الأمة العربية" وليس حرب التحرير الموعودة.. غارات جوية على القوات المصرية في صحراء سيناء.. وبصوت يبعث الأمل والحماس في النفوس أعلن المذيع أن مضادات الطيران المصرية وطائرات سلاح الجو المصري تتصدى للقوات الغاشمة، ونجحت حتى تلك اللحظة في إسقاط عدد، لم أعد أتذكره، من الطائرات المغيرة وأكمل بالحماس نفسه وسط تصفيقنا… انها تتساقط كالذباب.
لم تسعني والحلاق الفرحة وخرجت من عنده مهرولا الى حيث يتجمهر عدد من شباب البلدة امام منزل المختار الذي لا يبعد سوى بضع عشرات الامتار مطالبين بالسلاح.. دقائق قليلة مرت قبل ان تخترق ثلاث طائرات حربية اسرائيلية جدار الصوت. وسرعان ما تفرق الجمع بحثا على ملاذ.. وانتهى بي المطاف مع شخصين آخرين اتذكر اسم احدهما وهو جمال، في حفرة.. وبدأ القصف العشوائي على القرية.. لم نستطع مغادرة الحفرة خوفا على ارواحنا. وعلمت لاحقا أن أمي رحم الله روحها، كانت تبحث عني في حواري القرية.. ولم أعد الى المنزل الا في ساعات بعد الظهر عندما خف القصف المدفعي الذي كان من جانب واحد. ولم يكن هناك ملجأ نختبئ فيه، سوى بيت الدرج، او كما يقول المصريون بير السلم. واستمر القصف متقطعا. نام من استطاع منا النوم في الليلة الاولى.
وتكررت احداث اليوم الاول في اليوم التالي. وعند الظهيرة اشتد القصف بشكل جنوني لمدة ساعتين فقط ليتوقف بعدها.. وفي فترة الهدوء جاءنا عم والدتي ليفجر الخبر المفجع.. اليهود. دخلوا البلد. وطلب منا ان نغادر المنزل الى المنطقة الشرقية. ومع آذان المغرب، ويبدو ان المؤذن لم يكن قد وصله الخبر الفاجعة، حملت ابنة أخي على كتفي وخرجنا من المنزل بما علينا من ملابس في اتجاه منطقة على أطراف البلد يطلق عليها النزازات وهي منطقة وعرة مرتفعة، وكان قد سبقنا اليها حشد كبير من الناس. ونزلنا جميعا في مغارة. لم تمض سوى ساعات على وصولنا حتى جاءنا مجددا عم والدتي ليبلغ الجميع بان اليهود ويقصد الجنود الاسرائيليين يملأون البلد.. وعند منتصف الليل قررنا نحن العائلة النزوح الى بلد جدتي لوالدي واسمها كفر رمان، وتقع فوق مرتفع على بعد كيلومترات.. غادرنا المغارة وابنة اخي على كتفي، في عتمة الليل نتحسس طريقنا وسط الصخور والأحراج والشوك في محاولة للوصول الى الطريق المعبد. وما ان وصلنا الى ذاك الطريق حتى أوقفتنا مجموعة من الجنود.. وسألني قائدهم.. أنتم من فين يا أخ.. قلت شويكة.. وسألني هل احتلت.. قلــــت لا ادري فأنتم حماة الوطن.. تمنيت عليه لو كان بالإمكان مساعــــدتنا في الوصول الى البلدة التالية (عنبتا)، خاصة ان معنا أطفالا وامرأة حاملا.. فقال لا نستطيع مغادرة موقعنا.. لم أجب وواصلنا المسيرة.. وصلنا البلدة التالية مع آذان الفجر، لنجد القوة نفسها وقد سبقتنا اليها.. وبعد ساعتين وصلنا الى كفر رمان، مرهقين جائعين يغالبنا النعاس ولم نستوعب الفاجعة بعد.. ولقينا في ذاك البلد الكرم والحفاوة.. ما خفف عنا بعضا مما نحن فيه. مكثنا هناك يومين اخرين احتجنا اليهما لكي نستوعب مصابنا الكبير.. وفي التاسع من يونيو وبعد الاعتراف رسميا بـ ‘النكسة والاستسلام" عدنا الى قريتنا المحتلة لنلتقي وجها لوجه لأول مرة مع يهود، ناهيك عن جنود الاحتلال. ولنعلم ان 7 من أبناء البلد استشهدوا احدهم كان معي في فصل الدراسة.
هكذا بدأت "حرب التحرير" وهكذا انتهت وهكذا ماتت الإحلام… وفقط 24 ساعة فصلت بين "حلم التحرير" وواقع الاحتلال… وضمر الوطن وأصبحت القوات الاسرائيلية على مشارف قناة السويس وعلى بعد 40 كيلومترا من دمشق وعلى ضفاف نهر الاْردن.. والحبل جرار ما دام حالنا هو هذا الحال..
هذه باختصار قصة "حرب حزيران" في عيون شاهد عيان.. بهذه البساطة بدأت وبالبساطة نفسها انتهت.. الهدف ليس تسجيل نقاط أو التقليل من شأن أي طرف… انما للتاريخ.
كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح