بالرغم من أهمية وضرورة إعمال القانون الدولي والشرعية الدولية إلا أن الواقع الدولي والعلاقات بين الدول لا ينتظمان ويستقران دائما بما يتوافق مع مبادئ القانون والشرعية الدولية .وبالرغم من أهمية القيم والأخلاق والمبادئ السياسية في حياة الشعوب إلا أن السياسة لا تقوم بالضرورة على الشعارات والتمنيات ،بل على المصالح وموازين القوى والقدرة في التأثير على مجريات الأمور الوطنية والدولية .وبالرغم من اهمية وضرورة توفر عنصر الشرعية في أية سلطة سياسية إلا أن الواقع يقول بوجود كثير من الأنظمة والكيانات والتواضعات السياسية التي تمتلك سلطة كلية كانت أو جزئية ، لا تقوم على أية شرعية دستورية أو قانونية .ولأن مفهوم وواقع سيادة الدولة – وخصوصا الدول الكبرى - وحدود مصالحها الاستراتيجية ومفهومها للأمن القومي باتت تتجاوز المفهوم التقليدي للسيادة لتتجاوز الحدود الوطنية لتمس سيادة دول أخرى قد تقع في قارات اخرى ... لكل ذلك فإن السياسة سواء في المجال الوطني الداخلي أو في المجال الدولي لا تعرف الفراغ حيث توجد دائما أطراف ودول مستعدة لتملا الفراغ ، وليس مهماً في هذه الحالة إن امتلكت هذه الاطراف الشرعية أم لا ،لأن الشرعية في هذه الحالة تكون للأقوى المسيطِر وليس للأصلح المنشود.
هذه المقاربة العلمية والواقعية للسياسة تفسر لنا ما يجري من فوضى في الشرق الاوسط وكثير من الدول العربية .فعندما انهار المعسكر الاشتراكي الذي كان يشكل قطبا دوليا يوفر حماية لدول العالم الثالث ،حدث فراغ ملأته واشنطن وحلف الاطلسي . وعندما تراجع المشروع القومي العربي وانهارت الأيديولوجيات القومية والاشتراكية واليسارية حدث فراغ أيديولوجي تحاول ملئه مشاريع أخرى كمشاريع جماعات الإسلام السياسي ،ومشروع الشرق الأوسط الجديد ،والمشروع الفارسي ،ومشروع العثمانية الجديدة .وعندما غابت عن العالم العربي دول وقيادات كبرى طفت على السطح دول صغيرة وقيادات هزيلة تحاول ملء الفراغ .وعندما ضَعُفت سلطة الدولة المركزية وتآكلت شرعيتها وعجزت عن القيام بوظائفها الرئيسية من الحفاظ على تماسك ووحدة المجتمع وحمايته من التدخلات الخارجية وتأمين مستوى مقبول للحياة الكريمة للمواطنين ،حينئذ ظهرت جماعات محلية تحاول ملئ الفراغ وتتقاتل للوصول للسلطة ،أيضا تتدخل دول اجنبية لملئ الفراغ موظفة قوتها المجردة ومتذرعة بحماية أمنها القومي ،أو تبرر تدخلها بأنه يأتي لاعتبارات إنسانية ولحماية السكان المدنيين أو أقليات محددة .
ما ينطبق على دول فوضى الربيع العربي ينطبق على الحالة الفلسطينية بدرجة كبيرة ،مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية حيث يوجد احتلال إسرائيلي ولا توجد دولة فلسطينية مستقلة . ففي منطقة كمنطقة الشرق الاوسط وفي قضية كالقضية الفلسطينية يتداخل فيها الوطني مع القومي مع الديني ،الماضي مع الحاضر ، الدين مع السياسة مع الاقتصاد ، وتختلط رياح الجنة برائحة النفط الخ ،لا يمكن أو يُسمح بحدوث فراغ ،أو تُترَك المنطقة والقضية الفلسطينية لتتلاعب بهما أحزاب وقوى محلية صغيرة ،أو أن تنفرد دولة واحدة بمصير المنطقة ، أو أن تُترَك إسرائيل لوحدها تتصرف في مصير المنطقة .
هذا يفسر لنا ويرد أيضا عن تساؤلات يطرحها المواطنون العاديون وأحيانا السياسيون عن السبب في تدخل كثير من الدول العربية والإقليمية والدولية في الصراع الناشب في المنطقة وفي الشأن الفلسطيني على وجه الخصوص ، لماذا تتدخل تركيا وقطر وإيران وحزب الله ودول اوروبية في الشأن الفلسطيني الداخلي وفي مجرى الصراع بشكل عام . عندما يصبح أصحاب القضية الرئيسيين عاجزين وغير قادرين على امتلاك زمام أمور قضيتهم وامتلاك قرارهم الوطني المستقل ،وعندما يفتقر الشعب لقيادة وحدة وطنية وسلطة محل توافق وطني ،وعندما يستمر الانقسام لسنوات بدون حل ،وعندما يعجز النظام السياسي الفلسطيني عن توفير الحد الادنى من متطلبات الحياة الكريمة للشعب ... . يحدث فراغ سياسي تحاول إسرائيل ودول اخرى أن ملئه .
هذه الدول - خصوصا العربية والإسلامية - تبرر تدخلها في الشأن الفلسطيني بأنه يأتي تلبية للواجب القومي أو الإسلامي ولحماية الشعب الفلسطيني ،وهذا تفسير به شيء من الصحة وقد يجد قبولا عند أطراف فلسطينية تتقاطع أيديولوجيا مع هذه الدول ، ولكنه تفسير لا يُحيط بكل الحقيقة ،وهي أن تدخل هذه الدول يأتي في سياق السعي للحفاظ على /أو حماية المصالح الاستراتيجية القومية لهذه الدول ،أو أن هذه الدول تعمل في إطار استراتيجية تحالفات دولية لإعادة ترتيب المنطقة ، وقد تبرر هذه الدول والجماعات تدخلها بأنه سعي مشروع لقطع الطريق على إسرائيل حتى لا تنفرد بالمنطقة بما يهدد المصالح الاستراتيجية لهذه الدول . وفي جميع الحالات ما كان لهذا التدخل أن يكون لولا الانقسام والفراغ الناتج عن غياب دولة وكيان فلسطيني صاحب قرار وطني .
من هذا المنطلق على الفلسطينيين بدلا من رفع الشعارات الكبرى والمراهنة على هذا الطرف الاجنبي أو ذاك ، وبدلا من الاستمرار بتوجيه الانتقاد للدول والجماعات التي تتدخل في الشأن الفلسطيني وتوظف قضيتهم العادلة لخدمة مشاريعها ومصالحها التي تتعارض فن كثير من الاحيان مع المصلحة الوطنية الفلسطينية ، عليهم أن يسدوا الذرائع بملء الفراغ الذي يسمح لهذه الدول بالتدخل في شؤونهم الداخلية ،وذلك بالعمل على تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية ، وهي مصالحة ضرورية وممكنة حتى في ظل الفصل الجغرافي والشتات.
بقلم/ د. إبراهيم ابراش