من المتفق عليه أن الأمن الإعلامي هو من أكثر انواع الأمن استراتيجية وأهمية ,لأن أمن الأفكار وأمن القيم هي من المقومات الأساسية لأي مجتمع, وحيث ان للأمن الإعلامي مقومات فان له ضوابط ايضا ,وخاصة في ظل العولمة وثورة الاتصالات ,فكلما زادت التكنولوجيا تطورا وانتشارا ، كلما زادت التبعية والتقليد للآخر, وذلك في اطار الوعي التام والانزلاق نحو الذوبان في ثقافة الاخرين بوعينا التام ايضا او دون وعي. وهذا ما يؤدي بنا الى التصادم ليس مع قيمنا وأخلاقنا فحسب, بل وحتى مع تعاليمنا الاسلامية ,وبالتالي الى انعدام الأمن الإعلامي داخليا وخارجيا ,فعلى المستوى الخارجي لا يمكن تحقيق الأمن الاعلامي دون استراتيجية إعلامية واضحة لمواجهة انعكاسات التطور التكنولوجي ومحاولات الغرب في الترويج لقيم إعلامية لا علاقة لها بالمجتمعات العربية ,ولا صلة لها بقضاياه المصيرية وهمومه اليومية ,بل حسب قيم الغرب وايديولوجياتهم وذلك في محاولات استلابهم لفكر الشباب العربي واستعمار عقولهم لتبديل القيم العربية والاسلامية بالغربية وهكذا أصبح الإعلام الغربي هو الذي يحدد أجندة المشاهد والمستمع والقارئ العربي وهذا يعني أن إعلام الآخر هو الذي يشكل في حقيقة الأمر الرأي العام العربي وخطه الافتتاحي وإطاره المرجعي وقيمه وأيديولوجيته.
انطلاقا من هذا الانسلاخ الخطير فإننا لا نستطيع الكلام عن أمن إعلامي ولا نستطيع الكلام عن إعلام وطني أو قومي أو محلي يتفاعل مع هموم وقضايا الشارع العربي, فالتبعية الإعلامية والتقليد وفقدان الهوية في النظام الإعلامي العربي تشكل خطرا على الأمن الإعلامي وتهدد بذلك كيان الأمة برمتها. اما على المستوى الداخلي وهو المحور الاساسي لدراستنا وصولا لأمن اعلامي فلسطيني ,فانه يجب التذكير بانه لا تنمية مستدامة دون إعلام قوي ,ولا ديمقراطية دون إعلام حر وشفاف، ولا مجتمع مدني فعال دون إعلام ديمقراطي يعكس قيم ومبادئ وعادات وتقاليد المجتمع, ولا استراتيجية وطنية لأي خطط تحريرية او مستقبلية دون قلم وطني يكتب ,وكاميرا محليه تصور, وتقرير مخلص النوايا يحذر ليعالج, فهل يمكن لنا ان نحقق ما نصبو اليه في ظل تصارع اعلامي مجهول التمويل ,حزبي التوجه ,متعدد الولاء والانتماء ,وهذا ما يمكن ملاحظته عند استقراء واقع الاعلام الفلسطيني .
مع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة ,وفي اطار حملتها الاعلامية لتبرير ما ارتكبته من خطايا اثناء سيطرتها على مؤسسات السلطة بقوة السلاح , فان معظم الوسائل الاعلامية المقروءة منها والمسموعة ,اضافة لقنوات التلفزة التي تتبعها مباشرة او تواليها لدعم منها ,او لتحالف معها ,قد حاولوا وما زالوا يحاولون ايصال رسالتهم بأن ما قاموا به من سيطرة على غزة كان بهدف القضاء على العمالة لإسرائيل واغلاق بيوت الدعارة واوكار المخدرات.
هالني ما سمعته وما زلت من تبريرات لما ارتكبوه بحق الشعب والقضية, ويستفزني ايضا بعض إعلامييهم الى درجه التقزز الاشمئزاز من المفردات التي يستخدمونها في اطار حملتهم المسمومة وغير المسبوقة في تاريخ الشعب على كافة المستويات ,وهذا ما جعلني في موقف المتسائل عبر مقال منشور وهو اذا ما كان الاعلامي الفلسطيني مجرم ام انه ضحية؟ فثبت بأن الاعلامي قد يصل الى مرحلة الاجرام بما يكتب ويصور ويرسم ,ليس بحق نفسه فقط ,بل بحق مجتمعه وقضيته, فالإعلام سلاح ذو حدين فهو اما اداة بناء, واما معول هدم ,والكثير من العاملين في مجال الصحافة والاعلام اصروا بما يكتبون ويصورون ويرسمون على ان يكونوا معاول هدم لا بناء , لأنهم لم يتجاوزوا فقط عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه ,وكذلك القوانين الواجبة الاتباع فيما يتعلق بالإعلام وما تم وضعه من ضوابط ,وانما تخطوا كل القيم الوطنية والأخلاقية ,فعن أي عمالة واوكار مخدرات وبيوت دعارة كانوا يتحدثون؟ وهل تم القضاء على كل ما سبق وتم تحقيق كافة اشكال الأمن للشعب الفلسطيني؟ ,وهل ما ذكروه من تبريرات تستوجب السيطرة على غزة بقوة السلاح مما ادى ذلك لتغييب قضيتنا واعادتها الى الخلف لعقود بفعل ما احدثه هذا الانقسام من انعكاسات على كافة الميادين والصعد؟.
ان استقراء واقع الاعلام الفلسطيني يؤكد بأن الكثير مما يتم نشره سواء عبر الاعلام المقروء والمسموع والمرئي ايضا لا يتفق مع القوانين روحا ونصا ,وبما يؤكد ايضا بأنه لا ركائز او منطلقات للإعلام الفلسطيني رغم وجود تلك النصوص وكثرة ما قيل من اراء واقتراحات حول حرية الاعلامي الفلسطيني ,وهذا ما ينفي بشدة ان هناك امنا اعلاميا فلسطينيا في ظل التشابكات والتناقضات للحالة الاعلامية الفلسطينية على ضوء التشابك السياسي وحتى الجغرافي وان كنا نذكر ذلك باستحياء.
لا شك بأن الأمن الاعلامي هو عملية مراعاة وسائل الاعلام للأبعاد الامنية وعدم تجاوز الدستور في كل مخرجات الاعلام, مع عدم انحراف تلك الوسائل لتجعل من نفسها معول هدم لا معول بناء ,حيث ان انحرافها يؤدي بنا الى الهلاك نتيجة نشر المبادئ الهدامة وهذا ما يؤدي بطبيعة الحال الى تهديد الكيان الاجتماعي والاقتصادي والأمني, وبالتالي فان تحقيق الأمن الاعلامي يتطلب منا اولا مراعاة الخصوصية الاسلامية والعربية في كافة مضامين الاعلام مع ضرورة التركيز على الابعاد التنموية والتثقيفية وفقا لما تضعه الدولة من ضوابط ومرتكزات تحقق الامن الاعلامي المطلوب, وذلك من خلال تنظيم استخدامات وسائل الاعلام بمقتضى القوانين والانظمة الخاصة بالمطبوعات والنشر داخل حدود الدولة ووفقا لما يحدده الدستور ايضا فيما يتعلق بالأمن الاعلامي الفكري, والأمن الاعلامي الشخصي والاجتماعي , وكذلك الامن الاعلامي السياسي وهي نفسها التي تعتبر مرتكزات للأمن الاعلامي .
ان نظرة سريعة الى مشروع الدستور الفلسطيني المعدل نجده قد حدد بعض الضوابط للإعلام الفلسطيني بما لا يجعله معول هدم لعقول وقيم الشعب الفلسطيني ,فهو لم يترك الباب واسعا امام الاعلام واحقيته في نشر كل ما يحرض ضد نظام الحكم, او العمل على الاضرار بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني ,او نشر ما يسيئ لوحدة الشعب والعمل على بث التفرقة والتشرذم بينهما؟.
كما ان قانون النشر والمطبوعات حظر كل ما من شانه تهديد النظام العام او اثارة البغضاء وبث روح الشقاق بين افراد المجتمع الواحد ,وهذا ما يجعلنا في موقف تساؤل وهو لماذا لا يتم معاقبة كل من يسيئ الى الركائز الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني, ومعاقبة ايضا كل ما من يحاول انتهاك حرية الآداب العامة للمجتمع الفلسطيني او الاساءة الى رموز هذا الشعب والاضرار بسمعة قياداته؟.
لتحقيق الامن الاعلامي الفلسطيني لا بد من التقيد بما كفله القانون من حقوق خاصة بالحقل الاعلامي ,وما حدده القانون من نصوص يضبط الحالة الاعلامية ايضا, فلا يمكن لنا ان نحقق مثلا امنا فكريا بمعزل عن الأمن السياسي ,ولا يمكن تحقيق الاثنين معا بمعزل ايضا عن الامن الاعلامي العام , فهل حرية الاعلام تجيز لنا نشر كل الموضوعات والآراء التي تخالف شريعة الاسلام وقيمنا الوطنية والاخلاقية ؟,وهل حرية الاعلام تجيز لنا ايضا نشر كل ما يتنافى مع امن الدولة الوطني ونظامها العام؟.
وهل حرية الاعلام تجيز نشر كل ما يؤدي الى زعزعة الطمأنينة وتأليب الراي العام وتحريك الجماهير ضد السلطة , او تحميل فئة على اخرى بما يحمل هذا التأليب في طياته دعوات الى القتل والاستئصال؟.
ان التصارع الاعلامي وان تفاوتت مسؤوليه اطراف التصارع في الاعداد والاهداف والتمويل يجعلنا في حالة عجز امام الهجمة الاعلامية الداخلية وما يصدر ايضا بين الحين والاخر من هجوم اعلامي من بعض الوسائل التي تتبع لمحاور اقليمية لا مصلحة لها في استقرار الحالة الفلسطينية ,حيث نجد ان الاعلام المعادي وخاصة الداخلي بلا اخلاق مهنية ,وبلا وازع من ضمير, كما ان ما يبثه من برامج وتقارير اخبارية يهدف الى تهديد الأمن والاستقرار السياسي, فما مصلحة ان يتبادل الطرفان في غزة والضفة الاتهامات واظهار كل منهما للآخر انه سبب انتشار الرذيلة والفحشاء في مناطق سيطرتهما ,وما هي مصلحة كل منهما في تضخيم الاخطاء الفردية لأجهزة الامن وبشكل لا يراعي قيم ولا اخلاق ,وبما يولد النفور من الاجهزة الامنية والاحتقار لمن ينتسب اليها؟ .
وما هي المصلحة في محاوله اظهار مناطق السلطة على انها بؤر للفساد والافساد , وبانها مكان لإشباع الغرائز الجنسية وتضخيم بعض الحالات الشاذة والاستثنائية على انها سياسة عامه ,كما جرى عند تضخيم مشهد لفتاة ترقص على دوار المنارة ,قيل فيما بعد انها كانت في حالة جنون ؟.
ولعله من المفيد أن نذكر وان كان ذلك يستحق منا دراسة خاصة وهي خارج نطاق ما نتحدث عنه بان الاعلام الفلسطيني الرسمي وان يستند في حقيقته الى مشروع وطني الا انه اعلام متخبط ,لا استراتيجية اعلامية له ,ولا رؤيا سياسية ولا احترافيه مهنيه لمن يعمل بالإخراج والاعداد وخاصة فيما يتعلق بالإعلام المرئي منه على الرغم مما يمتلكه الاعلام الرسمي من كوادر بشريه ومواد تقنية, في حين ان الاعلام المعارض يمتلك الاستراتيجيات الإعلامية والتقنية والكوادر البشرية والاحترافية المشهودة لها اعدادا واخراجا ,بالإضافة الى الرؤي السياسية والتنظيمية وبما يخدم تحالفاته الاقليمية وارتباطاته الدعوية التي تتناقض مع البرنامج الوطني بل وفي اطار هجومه المنظم عليه.
ان على رجال الاعلام وذوي الاختصاص بالشأن الاعلامي الى التداعي وفورا الى عقد اجتماع عام لتحقيق ميثاق شرف يعمل وفورا على وقف الحملات المتبادلة التي تسيئ للقانون والمجتمع والقضية ,مع العمل على صياغة ميثاق وطني بما لا يخرج عن مشروع الدستور الموقت وقانون حقوق النشر والمطبوعات بما يحقق الامن الاعلامي الفلسطيني وذلك من خلال تحديد ضوابط ومعايير حرية النشر والمطبوعات وفقا لما تقتضيه المصلحة العامة ,وبما تؤكد عليه مرتكزات الامن الاعلامي تحقيقا للأمن وسيادة القانون والابتعاد عن بث الكراهية ورح العداء بين صفوف الشعب الواحد افرادا كانوا او جماعات او تنظيمات.
يتبع/..
ماجد هديب
كاتب وباحث فلسطيني
[email protected]